كتابات وآراء


الأربعاء - 18 أكتوبر 2017 - الساعة 11:19 ص

كُتب بواسطة : مروان الجوبعي - ارشيف الكاتب


أن تقضي حياتك خارج حدود الوطن، تظل ذاكرتك مرتبطة به، وكل شيئا تشاهده أمامك يذكرك فيه، ولا يمكنك نسيانه ابداً. فالذاكرة المعجونة بالوطن لا يمكن محوها وإعادة تشكيلها حسب المزاج.
بالرغم إن العم سالم قضى أكثر من نصف عمره بالمنفى، لم يفارق ذهنه التفكير بالوطن، بل يعيش أحزانه عن بعد، ويتحسس أوجاع الناس ويستشعر مكابدتهم اليومية للمعاناة. وتشعر من خلال قصصه، وحديثه، إن لا شيء يشغله سواه.
فقد كان من أوائل النشطاء الذين تفاعلوا مع قضيته وشاركوا بفاعليةٍ، ولكنه اليوم مصدوم مما يحدث. إذ إنه يشعر بعد الانتصار العسكري الذي تحقق، إن هناك من أصبح يتاجر بالقضية على حساب تضحيات الشعب والشهداء.
عندما لمحتُ هاتفه يرن دون إن يجيب، سألت: "لماذا لا ترد على الهاتف؟" فحدثني إن المتصل أحد رفاق الغربة، وقد حدث وإن اتصل به اليوم الأول بعد انقطاع دام لفترة طويلة، عارض عليه صفقة تجارية ينوي القيام بها، وكان بإمكانه مساعدته بسهولة، وربح المبلغ المعروض عليه دون أي عنا يذكر لكنه بالاخير رفض ولا يرغب إن يسمع صوته مجدد.
كان فيما مضى صديقا مقرب منه، ويجمعهم تواصل شبه دائم، لكنه وبفعل الظروف السياسية الأخيرة التي استثمرها ماديا، بحكم علاقاته الوطيدة مع أحد القيادات الجنوبية، منذ ذلك الحين، قبل أكثر من سنة تقريبا، قطع التواصل بينهم ولم يعد يسأل عنه، بعد إن حقق أحلامه الشخصية "وأغتنى" على حساب القضية الوطنية.
كان قبلها، رفيقه هذا، من أشد المتحمسين وأشرسهم عندما يتعلق الأمر بالحديث عن القضية الجنوبية، إلى درجة أن العم سالم كان دائما يحاول تهدئته، كلما شاهده يصرخ غاضب بوجه الآخرين الذين بحسب توصيفه "خانوا مبادئ الثورة". حينها، لم يكن إلا مغترب مثله، يتقاسمون المعاناة معا، ويقدمون من أجل القضية جهودهم البسيطة معا، لكن هناك من كان يفعل إيمانا بالقضية وهناك من يفعل بهدف العائد الربحي، وهو ما حدث مع صديقه الذي يستثمر كل شيء، ويفكر بالربح قبل الخسارة، والذي أصبح يلعب بالملايين بين عشية وضحاها، ولم تعد تعنيه القضية بشيء!
قال ليَّ العم سالم معلقا على هذا الأمر "لا أخفيك إنّني كنت قد وافقت في بداية الأمر عندما لم أجد فرصة للتفكير، وبعد أنتهاء المكالمة، جلست مع نفسي فوجدت صوت بداخلي يبرر أن أقوم بهذه الصفقة، لأن الربح الذي سيعود علي خلال ساعات منها يوازي أضعاف ما اكسبه طوال عام كامل، هذا الصوت كان يدغدغ مشاعري وتتحرك معه شهوة المعاناة والحاجة. لكنني بالاخير وضعت كرامتي بكفة وبالاخرى المقابل المادي، فوجدت أن الكرامة أثمن من أي شيء آخر"
ورغم أن الصفقة تجارية بحتة ولا علاقة لها بأي شيء آخر، ولو إنها جاءت من جهة أخرى لأعتبرها العم سالم رحمة إلهية مرسلة من السماء، لكنه شعر بتأنيب الضمير لكونه يدرك إن هذه الأموال جاءت كثمن لدماء الشهداء ولم يقبل أن يخون كرامته ومبادئه بمقابل مادي مهما بلغ قيمته ومهما كانت المبررات.
كان قد أعطى موعدا لصديقه هذا، ولكنه بالاخير قرر إن لا يقبل هذه الصفقة، مهما كانت مشروعة، لحظتها وأنا أشاهد هاتفه يرن دون أن يجيب -حسب الاتفاق بينهما اليوم الأول - سألت "لماذا أختارك أنت بالذات؟ وما هي طبيعة هذه الصفقة؟" أجاب بكل ثقةٍ "طبعا كان ذلك لأنه بأمس الحاجة لمساعدتي، ولأنه يثق بي ولم يجد أحد آخر، وثانيا لأني اشتغل بالمجال التجاري نفسه"
وعندما وجد الرجل لم يتوقف عن محاولات الاتصال به أغلق العم سالم هاتفه ثم ألتفت إليَّ قائلاً:"أحياناً علينا أن نتمتع بقسوةِ قاتلٍ، تجاه من وثقنا بهم واعتبرناهم ذات يوم أصحاب مبادئ، لنتخلّص من عبء وجودهم في حياتنا!"