كتابات وآراء


الإثنين - 20 نوفمبر 2017 - الساعة 03:23 م

كُتب بواسطة : قاسم المحبشي - ارشيف الكاتب


كم يسعدني حينما اقرأ لكتاب شباب محاولات جادة في مقاربة إشكالية الهوية ورهاناتها الاستراتيجية، وقد لفت نظري واهتمامي في الأونة الآخيرة الحوار الفكري الثري بين شابين صديقين عزيزين من جيل المثقفين الواعدين في الوطن العربي وهما الصديق العزيز المهندس أمين اليافعي والصديق العزيز الإعلامي سامي الكاف الذين أكن لهما الود والاحترام وأرى فيهما ملامح المثقف الملتزم بحمل رسالة الكلمة بصدق ونزاهة وأمانة وتجرد وحيادية مقدرة خير تقدير. ولما كنت قد ناوشت سؤال الهوية منذ سنوات مضت وكتب فيه وجهة نظري بعد قراءة معمقة لعدد من المراجع الهامة المتصلة بالهوية ودوائرها الشائكة اتذكر منه: كتاب روجيس دوبريه “نقد العقل السياسي” وكتابات الفرنسي “الدولة والمجتمع في الغرب والإسلام والدولة المستوردة” وروجيه كايوا “الإنسان والمقدس″، وداريو ششايغان “أوهام الهوية”، بارت آلان “الهوية والتمثيل”، وفريد بارت “بناء الهوية”، وجان فرانسو بايار “أوهام الهوية”، وجون جوزيف “اللغة والهوية”، وهابرمانس “الهوية التواصلية”، وأمارتيا صن “الهوية والعنف”، ورينيه جيرار “العنف المقدس″، وتيد روبرت غير “لماذا يتمرد البشر؟”، وجون إهنبرغ “المجتمع المدني، التاريخ النقدي للفكرة”، ودانيال هيرفيه ليجية وجان بول ويلام “سوسيولوجيا الدين”، هاوارد ج. وياردا “المجتمع المدني “النموذج الأميركي والتنمية في العالم الثالث”، ودنيس كوش “مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية”، وبينديكت أندرسون “الجماعات المتخيلة”، وجون هيلز واخرون “الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم”، وكلود دوبار “أزمة الهويات”، وجيل دولوز “الاختلاف والتكرار”، وآدم كوبر “الثقافة: التفسير الأنثروبولوجي”، ومحمد عابد الجابري “مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب”، وصالح الطائي “نحن والآخر والهوية”، وكتابات أحمد نسيم برقاوي في “الدولة وفي العرب والأيديولوجيا والتاريخ”، وجورج طرابيشي “هرطقات”، وتوفيق مديني “المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي”، وحسن حنفي “الهوية: مفاهيم ثقافية”، وفتحي التريكي “استراتيجيات الهوية”، وأدونيس “الهوية غير المكتملة”، وعلي حمدان “إشكالية الهوية والانتماء”، “سلسلة الأستراليون العرب”، وشريف يونس “سؤال الهوي: الهوية العربية في ظل العولمة”، وحسن الصفار “الطائفية بين الدين والسياسة”، وكتاب “الطائفية والتسامح والعدالة الانتقالية”، وفالح عبد الجبار”في المشكلة الطائفية”، ومايكل أنجلوياكوبوتشي “أعداء الحوار أسباب اللاتسامح ومظاهره”، وسكوت هيبارد في كتاب “السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية”،وغير ذلك من سلسلة الدراسات والإصدارات المتصلة بقضايا الهوية المجتمع والسياسة. وهذا ما أتاح لي فرصة المشاركة في المؤتمر الدولي الأول: الهوية بين الدين والسياسة والمجتمع المدني في جامعة تبسة بالجزائر عام ٢٠١٣م و فرصة المشاركة بورقة بحثية في مؤتمر المركز العربي للأبحاث في قطر عن الطائفية والتطييف ،وغير ذلك
ورغم كل ذلك مازلت أشعر بالجهل والحاجة الى المزيد من المعرفة بشأن سؤال ودوائره الشائكة
واليكم وجهة نظري المتواضعة في الهوية كما وردت في بعض مقالاتي ومنها حوار سجالي مع المفكر العربي السوري عزيز العظمة في مجلة الجديد اللندنية قبل عامين تقريبا.

يصعب مقاربة، وفهم إشكالية الهوية الطائفية بمعزل عن شبكة علاقات الهيمنة، وسياسات الهوية المادية، والرمزية المتجسِّدة في عالم الممارسة الواقعية الحية للفاعلين الاجتماعيين الساعين وراء حاجاتهم، ومصالحهم، وطموحاتهم العادلة وغير العادلة، إذ نعتقد أن ثمة صلة ارتباط، وعلاقة تفاعلية تبادلية التأثير والتأثر بين الهيمنة، وسياسات الهوية والطائفية. في هذا السياق سوف نحاول معالجة المشكلة من منظور ثقافي نقدي عقلاني، يتوسل المفاهيم الأساسية الثلاثة: الهيمنة، الهوية، والطائفة، بصفتها أدواتٍ منهجية للرؤية والبحث، فضلاً عن بعض المفاهيم المساعدة الأخرى مثل: مفهوم الاعتراف، والإنصاف المهمين لأغراض هذا البحث، وذلك بالاتساق مع منطق العلم المعني ليس بماذا يفعل الناس، وكيف يسلكون، وماذا يقولون، بل الأهم لماذا يتصرفون على هذا النحو، ولماذا يقولون ما يقولونه عن أنفسهم وعن الآخرين؟! وهذه المقاربة ممكنة فقط إذا ما حاولنا النظر إلى الهوية، والطائفية من منظور العلاقات الاجتماعية، واستراتيجيات الفاعلين الاجتماعيين في عالم الممارسة الحية للناس الساعين إلى تحقيق مصالحهم المادية والمعنوية، إذ حين ذلك تبرز الهوية بوصفها رهان صراعات اجتماعية حول التسمية، والتصنيف، والتعريف، صراعات تستهدف إعادة إنتاج علاقات الهيمنة، أو قلبها.
ثمة جدل صاخب آخذ في التصاعد بشأن «الهوية»، وتجلياتها، ورهاناتها منذ سنوات في كل مكان من عالمنا المعاصر، بما جعلها «تنبسط» بعدها كأحد الأسئلة الحيوية في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والثقافية الراهنة، ورغم ازدهار خطاب الهوية في مختلف الدوائر الثقافية، والإعلامية، والأكاديمية منذ سنوات، لا سيما في الغرب، إلا أن مفهوم الهوية مازال محاطاً بظلال كثيفة، وسوء فهم بالغ، وذلك بسبب الخلط المضطرب بين الأبعاد، والمستويات، والعناصر، والعلاقات، والأنماط، والصور المتعددة المتنوعة للهوية، وتمثيلاتها، وتأويلات معانيها ودلالاتها المختلفة، فهي مفهوم شديد التعقيد بما ينطوي عليه من عناصر، وأنساق، وأبعاد متشابكة، ودلالات متعددة، وقد عبَّر كثير من العلماء والدارسين عن ذلك بطرق، وصيغ عديدة، فهذا جان فرانسوا بيار، يرى في كتابه «أوهام الهوية» أنه: «ليس هناك من داعٍ من دواعي القلق المعاصر إلا وتثيره قضية أوهام الهوية». ويذهب أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» إلى أن «التصدي لمفهوم الهوية، يتطلب كفاءة عالية، وجسارة فائقة، وحذراً شديداً، لما ينطوي عليه من طبيعة زائقة وخادعة، إذ إنه يشبه الأصدقاء المزيفين، الذين يبدون في ظاهر الأمر أكثر شفافية، وبساطة، بينما هم في الواقع أكثر مكراً وخيانة «. ويذهب المؤرخ ألفرد كروسر «Alfred Grosser» إلى أن «مفهوم الهوية يعدُّ من بين قليل من المفاهيم، التي حظيت بالاهتمام والتضخيم، إلى أن صار شعاراً طوطمياً».
فما هي الهوية، ولماذا تكتسب في المجتمعات العربية الإسلامية صيغة طائفية؟
ميَّز الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، بين معنيَين للهوية: الهوية بمعنى عين الشيء «idem»، والهوية المطابقة «Sameness»، بالإنجليزية هي حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، أو المتماثلة إلى حدِّ التطابق التام، أو التشابه المطلق مع الذات في جميع الأزمنة وجميع الأحوال. وهذا المعنى يأتي من المطابقة بين الهوية والماهية، كما يرى حسن حنفي في كتابه «سؤال الهوية». وربما كان أرسطو، هو أول مَنْ استخدم مصطلح الهوية بمعنى الماهية، الذي يشير إلى الجوهر الثابت في الشيء، كما جاء في قوانين الهوية الثلاثة: قانون الهوية الذاتية «Law of Identity»: «الشيء هو ذاته». وقانون عدم التناقض «Law of Contradiction»: «لا يمكن للشيء أن يكون ذاته، وألا يكون في آنٍ واحدٍ وعلى حد سواء». وقانون الثالث المرفوع «Law of Excluded Middle»: «الشيء إما أن يكون أو لا يكون». وفي ذلك قال المعلم الثاني الفارابي: إن الهوية تعني أن «الشيء هو ذاته دوماً، فالشخص هو هو، مهما اعتراه من تغيّر». وكذلك قول ابن حزم، في أن الهوية تعني أن «كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو عينه، إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر». فيما يذهب الجرجاني في «التعريفات» إلى أن الهوية هي «الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق». والبذرة تحمل في جوفها شكل الشجرة، وطعم الفاكهة، بحسب هيجل. ولعل الإشكال الذي يتصل بمفهوم الهوية لا يكمن في الأسماء والمسميات والصفات ذاتها، بل فيما تعنيه للفاعلين الاجتماعيين في السياقات الاجتماعية والثقافية المشخَّصة في مختلف صيغ علاقاتهم، ومستوياتها المتنوعة: البسيطة والمركبة، الميكروسوسيولوجيا والماكروسوسيولوجيا «أنا – أنت، ذات – آخر، نحن – هم»… وهكذا من الشخوص، والقناعات، والانتماءات، والتماهيات، التي يكتسبها الناس في بنياتهم الاجتماعية المختلفة. وفي سبيل مقاربة معنى الهوية، وعقلنتها، حاول بعض الفلاسفة التمييز بين الكائنات، وتصنيفها في مبدأين: مبدأ الهوية، ومبدأ الوجود. من مبدأ الهوية نتعرف على ماهية الكائن، وهويته الجوهرية: النوع، والجنس، والصفات، هذا معدن، وذاك حجر، هذا كلب، وذاك جمل، ومن هنا يمكن تصنيف جميع الكائنات غير العاقلة بعدِّها كائنات ماهوية، أي أنها وُجِدَت بماهية وهوية مكتملة، وقلَّما تتغير مع الزمن، في حين أن مبدأ الوجود يقتصر على وجود الكائن الإنساني، إذ إن الإنسان والمجتمع الإنساني هو الكائن الوحيد، الذي وُلِدَ ناقصاً، أي غير مكتمل الهوية، أو كما ذهبت الفلسفة الوجودية إلى أنه الموجود الذي وجوده يسبق ماهيته، وجود بلا ماهية محددة سلفاً، وجود لذاته، ومن أجل ذاته، وليس وجوداً في ذاته، وفي متناول اليد، وهذا ما يفسر ظهور وحضور مشكلة الهوية الطاغي في عالم الوجود الإنساني التاريخي الثقافي، حيث توجد الحرية، والعقل، واللغة، والرغبات، والأحلام، والأوهام، والتنافس، والصراع، والآمال. عالم الفعل والانفعال ما تحت «فلك القمر»، على عكس العالم الطبيعي، عالم الأشياء الماهوية.

وفي الختام أود الإسهام بوجهة نظري الخاصة في معضلة الهويات القاتلة التي تستعر اليوم في مجتمعاتنا العربية بضراوة مروّعة إذ شهدت بنفسي تجربة انزياحات الهوية واستراتيجياتها الصراعية المدمّرة في اليمن والعراق، فعلى مدى نصف قرن فقط غيّر الناس هوياتهم في اليمن شمالا وجنوبا مرات عدة، وها نحن اليوم نشهد جدلا صاخبا وصراعا متّقدا بشأن الهوية اليمنية، وهوية الجنوب: أهي جغرافية أم سياسية؟ فضلا عن احتدام أوار الهويات الطائفية، الزيدية والشافعية والحوثية والسلفية وغير ذلك من خطابات الهويات التقليدية الفرعية الكثيرة وهي خطابات أخذت تستقطب جموع واسعة ومتزايدة من الناس في الجنوب والشمال وذلك بعد مرور أكثر من نصف قرن على قيام (الجمهورية الثورية) في الشمال وإحراز الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني في الجنوب. ليس لأن الناس يرغبون في ذلك بل بسبب الممارسات السياسية التي دفعتهم إليه. وقد أذهلني ما شهدته في بغداد من تبدّل سريع وعنيف في صراع الهويات الطائفية قبل الاجتياح الأميركي وبعده، إذ سنحت لي فرصة الدراسة العليا في جامعة بغداد في تلك المدة الفاصلة، التعرف على حقيقة المعضلة الطائفية في العراق التي نشهد اليوم أهوالها، ففي عام 2004 وجدت العراق بصورة مختلفة كليا عن تلك التي عرفتها في الثلاث السنوات السابقة، وكانت حمى الطائفية هي أبرز ملامح العهد الجديد، على الرغم من أنها مازالت حينذاك في طور التفقيس البريمري (نسبة إلى الأميركي بريمر) الذي حكم العراق بعد احتلالها. وكما دفعت حرب صيف 1994 م التي شنتها القوى التقليدية المهيمنة في الشمال اليمني ضد الجنوب المدني، تحت رايات دينية وأيديولوجية وسياسية مختلقة وما تلاها من ممارسات تعسفية تدميرية لكل مؤسسات دولة مواطني الجنوب (السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والقانونية.. الخ) نقول كما دفعت تلك الغزوة التكفيرية الظالمة الجنوبيين إلى التعرف على ذاتهم الجنوبية المهزومة، وجعلتهم يتشبثون ويضحون بحياتهم في سبيلها، على نحو لم يشهد له التاريخ مثيل، فكذلك فعلت غزوة أميركا للعراق في إيقاد نار الهويات الطائفية التي كانت هامدة تحت رماد الطغيان السياسي الجمهوري البعثي، وزادتها اشتعالا بمنحها المزيد من الزيت الأميركي شديد الاشتعال، في سبيل تحقيق إستراتيجية (الشرق الأوسط الجديد) التي ستكون فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي أنطاكيا الجديدة، (جنة الله في بلاد العرب الخراب) (الشرق الأوسط الجديد)! ألا تلاحظون اليوم كيف تبدو صورة دولة إسرائيل بالمقارنة مع دول الجوار العربي؟!
اكتفى الأستاذ عزيز العظمة بإشارة وصفية تقريرية للعلاقة بين إيران والأسد إذ قال “لعل الإيرانيين راغبون في استكمال ما بدأه حافظ الأسد عندما التمس موسى الصدر لاعتبار العلويين شيعة اثنا عشرية، وتعميم ذلك على قطاعات أوسع من الشعب السوري باسم تصدير الثورة الإسلامية. فما الذي يدفع الناس إلى تبديل هوياتهم وإنشاب مخالبهم في بعضهم بعضا تحت راياتها وبتحفيز منها كسراطين البحر حتى الموت؟! وهنا يلزمنا النظر إلى العنف حينما يكون مقدسا، إذ أن الصراع حينما يكسب صفة مقدسة، (دينية أو أيديولوجية) يتحول إلى ثأر مزدوج جاهلي وعصبوي ديني، وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف هو أخطرها على الإطلاق، ذلك لأن (الثار الحر) يشكل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة، ففي كل مرة ينبثق منها من أيّ نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة، يميل إلى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا ما نراه ماثلا اليوم في العراق، حيث يصف (المالكي حربه مع داعش بثارات الحسين) ومن المعروف في مثل هذه الحالات كيف أن أقل عنف يمكن أن يدفع إلى تصاعد كإرثي، ومشهد العنف له شيء من (العدوى) ويكاد يستحيل أحيانا الهروب من هذه العدوى، “فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد أناس ينساقون إليه بحرية وحماس، ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكنهم أنفسهم، غالبا الذين يتيحون له النصر” وفي ظل غياب مؤسسة محايدة للعدالة، أقصد الدولة الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلال المجالات، (السياسي والديني والمدني والاقتصادي والثقافي والعلمي.. الخ) فيستحيل إيجاد وسيلة ناجعة يمكنها السيطرة على ظاهرة الحروب الطائفية المشتعلة، وكل المحاولات الراهنة المعتمدة على المدخل الأمني في ضبط ظاهرة العنف في المجتمعات العربية بالقوة العسكرية العارية المحلية أو الخارجية، من المؤكد أنها تزيده اشتعالاً مثل (اللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يلقى عليه بقصد إطفائه)".