كتابات وآراء


الأربعاء - 03 يناير 2018 - الساعة 10:44 م

كُتب بواسطة : د. علي صالح الخلاقي - ارشيف الكاتب



(في ذكرى رحيل والدي الحاج صالح بن عبدالرب بن يحيى بن محمد بن صالح بن عوض الحاج بن أحمد بن معوضة بن جياش بن معوظة بن سكران الخلاقي الذي غادرنا في 2 يناير2013م تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته)
******
وجهه المتهلّل إشراقا لا يفارق مخيلتي..أراه أمام ناظري..في كل وقت وحين..في صحوي ومنامي..ألمحه بصفاء وجهه وورعه وتقواه, فأبصر الحكمة في عينيه وعلامات الطمأنينة وبشاشة الإيمان التي ترتسم على محياه..أفتح كتابا من رفوف مكتبي فأشم عبق رائحته فيه, بل وتطالعني صورته مطلة من بين صفحات الكتب التي أدمَنَ قراءتها وكانت بالنسبة له خير جليس, بل متعته الأولى وولعه الكبير الذي تعلمته منه, وانتقل إليّ بالعدوى منه منذ طفولتي المبكرة حينما كنت أختلس فترات غيابه عن البيت فأتسلق إلى رف كتبه (الولجة) وأخُذ كتابا أقرأ فيه – بدافع الفضول وحب الاستطلاع- دون فهم لمعنى ما أقرأ لصغر سني حينها. وهذه من أرقى المتع العقلية التي تثري الروح والعقل بزاد فكري وثقافي وديني ومعرفي لا غنى غنه, وللأسف أن الكثير من شبابنا اليوم يفتقدون لهذه المتعة الراقية.
إنه وجه والدي المغفور له الحاج صالح عبدالرب يحيى بن سكران الخُلاقي الذي غادرنا إلى جوار ربه قبل عام مضى, وتحديداً في تاريخ 2 يناير 2013م.. بعد أن شارف على التسعين حولا من عمره الذي عاشه في رحلة عمل وسفر وكفاح منذ يفاعته..ففي طفولته المبكرة. وبعد أن أكمل تعليمه الأولي في الكُتَّاب (المعلامة), كانت نفسه تتوق للسفر إلى حضرموت, وتحديدا إلى (تريم) لتلقي العلوم الدينية فيها, وبما أنه أكبر أخوته وأخواته كان لزاماً عليه أن يساعد والديه في تدبير شئون الحياة وتوفير مصادر الرزق, وبدلا من الذهاب إلى تريم حط رحاله في عدن وفيها دخل مبكرا في معترك الحياة العملية ولم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره, فعمل في (البغدة) بخور مكسر في (خزينة السلاح) في الثلاثينات من القرن الفارط.. ومن عدن انتقل إلى سقطرى وعمل فيها أكثر من عام في (قلنسية) وكان طوال حياته يتذكر هذه الجزيرة المدهشة والساحرة .. ومن سقطرى غادر إلى الهند حيث كان يعمل بعض أخواله لأمه من قضاة خلاقة في مدينة (حيدر عباد), وكانت لهم تجارة وحظوة هناك، وقامت الحرب العالمية الثانية وهو في الهند..ثم عاد إلى مسقط رأسه بعد استقلال الهند ومغادرة العرب حيدر عباد التي آلت إلى الهند بعد تقسمها مع باكستان عام 1948م, وهاجر إلى قطر مطلع الخمسينات وعمل عدة سنوات وتفتحت عيناي عام 1956م, كأول أولاده, وهو في مهجره في قطر, ثم عاد نهاية الخمسينات واستقر به الحال في مسقط رأسه, تلبية لطلب والده الذي أراد أن يكون إلى جانبه خاصة بعد سفر أخويه الآخرين, العم محمد, ثم العم قاسم حفظهما الله.
كان والدي ممن اسهموا في تثبيت السلطة الوطنية بعد الاستقلال, واتذكر أنه القى كلمة الترحيب بوفد الجبهة القومية أثناء وصوله إلى (خُلاقة) بقيادة المناضل فضل محسن عبدالله, نيابة عن أبناء القرية, ولا زلت احتفظ بجزء من قصاصة الورق التي سجل فيها بخط يده كلمة الترحيب تلك. ثم عمل لفترة في محكمة (ريو) طوعيا, وانقطع بعد ذلك لعمله الخاص في الاعتناء بشئون الأسرة والاهتمام بقطع الأرض الزراعية وفتح دكانا صغيرا ظل يعمل فيه ويكسب منه رزقه الحلال, حتى استراح بعد أن مَنّ الله علينا – نحن أولاده- بأعمال, إذ انتشر ستة من أخواني, في فترات متفاوتة, في أصقاع الأرض موزعين في مهاجرهم بين قطر والبحرين وأمريكا, فيما استقريت أنا واسرتي في عدن, وسَلّم الوالد مقاليد الأمور ومفاتيح الدكان والبيت لسادس اشقائي (سالم) المكنى بـ(دوفس) منذ حرب صيف 94م التي كان أحد ضحاياها كغيره من الكوادر الجنوبية المؤهلة فتخصصه مهندس طيار عسكري, وتخرج من معهد الطيران حينها في عدن, وهو الوحيد من الاشقاء الثمانية الذي بقي مستقرا في خُلاقة, ضمن من أطلق عليهم حزب(خليك في البيت).
كان والدي رحمه الله رجلاً مؤمنا, صالحاً, تفرغ لأسرته وأرضه وتجارته وعبادته, ووفق في الجمع بينها, لم يكن الملل يجد إلى نفسه طريقا, وحين يشرع في أي عمل يؤديه ينهمك فيه حتى ينهيه على أكمل وجه, وقد أحسن تربيتنا نحن أبنائه الثمانية وبناته الأربع, وغادرنا وهو راضٍ عنا جميعاً, وتلك نعمة من الله تعالى لأن رضا الله من رضا الوالدين كما يحثنا ديننا القويم وكما علمنا نبينا الكريم القائل: " رِضَا اللهِ مِنْ رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ مِنْ سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ ".
لم ينغمس في ملذات الحياة بقدر انهماكه في الورع والتقوى, وإصلاح ذات البين, والتزامه في أداء الفرائض في أوقاتها والحرص على أدائها في بيوت الله, حتى آخر حياته, بل وكان يؤم الناس حين يغيب القاضي لأي سبب, بما في ذلك إلقاء خطبتي الجمعة وإمامة الصلاة فيها, تسعفه في ذلك ثقافته الدينية التي اكتسبها بالقراءة والاطلاع, حيث كان يقرأ كثيرا, ولم يتناول أو يمضغ أوراق القات اللعينة طوال عمره, لكنه كان اجتماعيا بدونها وبامتياز, وكان من أعيان بلدتنا(خلاقة) وصديقا لعاقلها الشيخ يحيى محمد الخلاقي, حفظه الله, فقد كان رفيق دربه وصديقه الحميم منذ شبابهما وسفرهما معا في رحلة الهجرة إلى الهند وإلى قطر وزمالتهما في رحلة الحياة بحلوها ومرها حتى آخر لحظة من حياته.
كان والدي, المغفور له بإذن الله, مدرسي الأول دون منازع, تعلمت منه الكثير في حياتي, سلوكا وممارسة..أخذت عنه سمو خلقه واعتداده بنفسه, وعلمني كيف أعرف نفسي بأن أضعها في مكانة الغير حتى أعرف حقوقي وحقوقهم, وأن اسمع أكثر مما اتكلم في مجالس القوم, وأن اتحكم بكل ما أقول وما يصدر من لساني من كلام أو قول, لأن اللسان تحبل وتلد مثل النساء, وأن اصمت عن الكلام فيما أجهل أو فيما لا يعنيني من أحوال وشؤون.. تعلمت منه أن لا أتذمر حين أتعب وأن أعمل بصمت دون أن ادعي فضلا فيما أعمل..وأن التزم الحق والصدق وإرضاء ضميري في جميع أعمالي مهما كانت النتائج. وعلمني الاستقلال بالرأي, على عكس كثير من الآباء الذين يظل ابناؤهم في نظرهم صغارا حتى وأن كبروا ولا رأي لهم ولا اعتراض على ما يقوله أو يقرره الآباء, بل كان يحثنا على الاستقلالية ويؤخذ برأينا إن كان صائبا ويتداول معنا كثيراً من شؤون الأسرة ويتعامل معنا بروح من الشورى وكأننا أصدقاء أو أخوة , مجسدا المثل الشعبي القائل (إذا كبر ابنك خاوه) أي اجعله بمرتبة الأخ.
كان يتحمس لنضال شعبنا السلمي ويؤمن بانتصار قضية شعبنا العادلة ضد من نكثوا بعهود الوحدة وكان يتابع باهتمام تطورات النضال السلمي الذي يخوضه شعبنا منذ عام 2007م, وتوفاه الله وهو يتطلع إلى يوم الخلاص.. وكانت خاتمته حسنة, كما كان يدعو الله ويطلب منا أن ندعو له بحسن الخاتمة, إذ مات موتة الأبرار, دون أن يقعده المرض, ووري الثرى في مسقط راسه.. وهذه الخواطر بعض وفاء فقط وغيض من فيض الذكريات عن الرجل الذي لا يبارحني طيفه, في ذكرى عام على رحيله إلى جوار ربه, ندعو له ولنا ولجميع الآباء والأمهات وأموات المسلمين بالرحمة والمغفرة.