الشأن العربي

الخميس - 22 مارس 2018 - الساعة 06:20 م بتوقيت اليمن ،،،

المرصد/ العرب

العملية الإصلاحية العارمة التي باشرتها المملكة منذ سنوات قليلة، ولئن تنفتحُ على أبعاد الاقتصاد والتحديث والمجتمع، وعلى أهمية هذه الأبعاد، إلا أن نقطة الارتكاز في العملية الشاملة هي السعي السعودي إلى إصلاح ديني يكرس الإسلام الوسطي، ويصالح المجتمع مع عصره.

هذا التصور يسوده وعي دقيق مفاده أنه مثلما تسربت جماعة الإخوان وتيارات دينية أخرى (التيار السروري مثلا) من خلال مداخل التعليم والكتب والثقافة، وعبر المدرسين الذين توافدوا على المملكة حاملين معهم أفكار جماعة الإخوان وأدبياتها، فإن العلاج يجب أن يكون من جنس المرض، أي أن تُقاوم تلك التيارات في المعاقل التي تسربت من خلالها، وتسعى اليوم إلى إعادة افتكاكها.

ولذلك تسعى المملكة العربية السعودية إلى إعادة صياغة المناهج الدراسية وتخليصها من أي تأثير لجماعة الإخوان المسلمين وإبعاد أي موظف ممن يتعاطف معها، بحسب ما أعلن وزير التعليم السعودي.

وقال وزير التعليم أحمد بن محمد العيسى، في بيان إن الوزارة تبذل جهودا “في محاربة الفكر المتطرف من خلال إعادة صياغة المناهج الدراسية وتطوير الكتب المدرسية، وضمان خلوها من منهج جماعة الإخوان المحظورة”.


الإصلاحات الشاملة التي دشنتها المملكة العربية السعودية، والتي انطلقت من ضرورة مقاومة الفكر الديني المتشدد، تسير وفق وعي رسمي بحقائق التاريخ والمجتمع. فالوعي السعودي بأن التيارات الدينية تسرّبت من الخارج من خلال وسائط التعليم والثقافة وتضافرت مع بيئة محلية راسخة في التدين، أفرزت نمطا فكريا ودينيا أيقنت المملكة أنه لم يعد مفيدا للمرحلة، بل سيعود بالوبال على البلد والمنطقة.

وتابع البيان أنه سيتم “منع الكتب المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين من جميع المدارس والجامعات، كذلك إبعاد كل من يتعاطف مع الجماعة أو فكرها أو رموزها من أي منصب إشرافي أو من التدريس” .

ولوضع المسألة في إطارها السياسي والديني والإصلاحي، تجدر الإشارة إلى أن بيان وزارة التعليم السعودية، صدر بعد مقابلة أجراها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع شبكة التلفزيون الأميركية “سي بي أس” ، قال فيها إن عناصر من الإخوان المسلمين التي تعتبرها السعودية “جماعة إرهابية”، قاموا بالتسلل إلى المدارس السعودية.

والملفت في الأمر أن تقاطعات كثيرة تسود العملية الإصلاحية السعودية في هذا الشأن بالتحديد. فهي عملية إصلاح ديني شاملة، تهم الحدّ من نفوذ بعض المؤسسات الدينية الرسمية التي أصبحت مواقفها وفتاواها غير مناسبة للزمن السعودي الجديد، حيث باشرت السعودية في السنوات الأخيرة سلسلة من الإصلاحات شملت تقليص صلاحيات الشرطة الدينية أو المطوّعين بشكل تدريجي، ومنعتهم من مطاردة الأشخاص وإيقافهم والتثبت من هوياتهم، وهي أيضا عملية تتقصّد “تمشيط” الآثار الخفية للجماعات الدينية المتطرفة (الإخوانية والسرورية خاصة) في المجتمع والثقافة والتعليم، وهي في النهاية تتقصّدُ أيضا مصالحة المجتمع مع العصر من خلال تمكين المرأة من حقوقها الاجتماعية والثقافية والسياسية.

إصلاح التعليم وإنقاذه من براثن التشدد هو مبدأ بديهي من بديهيات الدولة المدنية والعصرية، وهو مرحلة مرت بها كل الدول التي طرحت على نفسها مشروع الحداثة والتعصير، ولذلك فإن الوعي السعودي بأهمية مباشرة إصلاح التعليم وتخليص المناهج من الأفكار المتشددة التي شابتها طيلة عقود، جراء أجيال من المدرسين الإخوان، وجراء مرحلة الكاسيت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، استند إلى كل هذه المعطيات وأيقن أن المسألة ليست ترفا فكريا أو جنوحا إلى الاستعراض “سنقضي على التشدد، فلا توجد دولة في العالم تقبل تعرض نظامها التعليمي لغزو من أي جماعة متطرفة”، وفق تعبير الأمير محمد بن سلمان. وأضاف “السعودية ستقدم للعالم ما تبذله من مساع حثيثة لمواجهة التطرف”، مشيرا إلى أنه “بعد عام 1979 كنا ضحايا لبعض الممارسات الدينية، وخاصة جيلي الحالي”.

الانشغال السعودي بالتعليم يلتقي مع انشغال خارجي مفاده أن ثمة تهديدات خارجية تمتطي أفكارا دينية لا تقل تطرفا

التقاطع الآخر المهم في هذه القضية هو أن الانشغال السعودي الداخلي المشار إليه (التعليم والحد من نفوذ المؤسسات الدينية وإصلاح وضع المرأة والمجتمع) يلتقي مع انشغال خارجي انطلاقا من وعي ثان مفاده أن ثمة تهديدات خارجية تمتطي أفكارا دينية لا تقل تطرفا أو تفوقا في إرهابها عن “التطرف المحلي”.

فإيران الحاضرة في كل الشكاوى والتذمرات السعودية، تربطها صلة عضوية بأغلب ملامح التشدد الديني في الداخل السعودي، سنيا كان أم شيعيا، ففضلا عن ضلوعها في أغلب مشاكل المنطقة المحيطة بالمملكة وقلاقلها، فإن التاريخ ينبئ كذلك بصلتها بأكثر العمليات الإرهابية دموية في المملكة، ولعل حادثة جهيمان العتيبي في الحرم المكي في العام 1979 دالة على تضافر العوامل المشار إليها: تأثير المدرسين من الإخوان، واليد الإيرانية التي باشرت التسرب منذ ثورة الخميني، مع ما ترتب عن كل ذلك من تشدد محلي. ولذلك فإن التصور السعودي لعملية الإصلاح الديني يأخذ أيضا في الاعتبار أن الأمر لا يمكن فصله عن مقاومة الأصابع الإيرانية الممتدة في المنطقة، لأن إيران “تحمي عناصر القاعدة وترفض تسليمهم للعدالة وتأوي الزعيم الجديد لتنظيم القاعدة وهو نجل أسامة بن لادن”.

بالعودة إلى مسألة إصلاح مناهج التعليم وملاءمتها مع المعايير العصرية وتخليصها من كل بذور التشدد، فإن أحمد بن محمد العيسى، وزير التعليم السعودي اعترف بأن السلطات السعودية “لم تتنبّه إلى خطر الإخوان إلا في وقت متأخر حيث بدأت الجهود ولا تزال لتخليص النظام التعليمي من شوائب منهج الجماعة”، وهو ما أدى إلى قناعة مفادها أن “استئصال فكر الجماعة المتطرف يحتاج إلى جهد متواصل وإلى يقظة واهتمام من كل مسؤولي الوزارة، نظرا لاختلاطه بغيره من المدارس الفكرية الإسلامية، وتخفّي بعض المتعاطفين مع الجماعة”. مؤكدا أهمية أن “يعي مديرو الجامعات ومسؤولو الوزارة ومديرو التعليم في المناطق خطر التهاون في محاربة هذا الفكر، وبذل كل جهد ممكن لتنظيف نظام التعليم من فكر الجماعات الإرهابية وتخليص بلادنا من شرورها”.

الثابت أن الجرأة التي تحلّت بها السعودية، سواء في الاعتراف بما يسود مناهجها التعليمية من بذور تشدد، أو في ولوجها مناطق خطرة باعتبار أن الإصلاحات طالت بعض الذهنيات التي تشكلت وفق عقود طويلة، أو في الربط بين الأبعاد المتكاملة للإصلاح الديني داخليا؛ المؤسسات والمرأة والتعليم، وخارجيا من خلال تمثل الأخطار الخارجية المترتبة عن التشدد الإيراني، ستؤتي أكلها حتما باعتبار أن العلاج الناجع يقتضي تشخيصا دقيقا وصادقا. وهو ما يتوفر في الحالة السعودية، ولا شك أن طرق باب التعليم والثقافة والكتب هو المدخل الأمثل الذي لا يتقصّد الراهن بل ينظر إلى المستقبل، والدليل أن المملكة تعاني اليوم آثار جيل من المدرسين زرعوا أفكارهم في ستينات القرن الماضي.