الشأن الدولي

الثلاثاء - 22 سبتمبر 2020 - الساعة 06:53 م بتوقيت اليمن ،،،

(المرصد)وكالات


يسعى كتابُ «تسعة أرواح» بصورةٍ أساسية، إلى تبديد الشكوك حول قصة أيمن دين (اسم مستعار)، والتي أعلنها في مارس 2015 في مقابلةٍ أدلى بها لهيئةِ الإذاعة البريطانية. فقد أقرّ بكونه كان جاسوسًا داخل تنظيم القاعدة؛ لصالح وكالة الاستخبارات الخارجية البريطانية (SIS، التي تشتهر أكثر باسم MI6)، في الفترة ما بين 1998 و2006. وقد كان المحرك الرئيسي لخطوته تلك هو انكشافه بسبب تسريبٍ قام به صحفي في الولايات المتحدة.
في سبيلِ إثباته لصحةِ روايته، استعان أيمن دين بمؤلفين مشاركين معه، وهما اثنان من الأسماءِ البارزة في عالم مكافحة الإرهاب. فقد اعتمد على جهودِ وخبرات كلٍّ من بول كروكشانك، رئيس تحرير مجلة ” CTC Sentinel” الشهرية المتخصصة في مكافحة الإرهاب، والتي تعتبر أحد المصادر الأكاديمية الرئيسة الموثوقة في مجال مكافحة الإرهاب، وتيم ليستر، الصحفي المتخصص في شؤون مكافحة الإرهاب، ويعمل مع شبكة “سي إن إن”.
عمل الرجلان، بصورةٍ أساسية، على المساعدة في هيكلة ذكريات دين وتنظيمها والتثبت من دقتها، ويشير المؤلفان المشاركان أنهما تمكنا من “تأكيد التفاصيل الرئيسة المتعلقة بعمل أيمن دين لصالح الاستخبارات البريطانية” وتوصلا إلى استنتاج مفاده أنه “في السنوات التي سبقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثم التي تلتها، كان أيمن دين أهم جاسوس للغرب داخل القاعدة”.
الأصول والبدايات
ولد أيمن دين في أواخر عام 1978 لعائلةٍ بحرينية كانت تقيم في مدينة الخبر في المملكة العربية السعودية. ويصف دين هذه الفترة، والتي انطلقت فيها الثورة الإيرانية، بأنها كانت نقطةَ انطلاقٍ للموجة الحديثة من نزعة التشدد الإسلامي في يناير 1979. ويقول دين واصفًا ما حدث: “لقد غادر شاه إيران دولته؛ لأنه لم يرغب في أن يرتبط اسمه بعملياتِ قتلٍ جماعي لقمع (الاحتجاجات التي يقودها أنصار الخميني)، وقفز آية الله الخميني، الذي اعتقد كثير من الغربيين بسذاجة أنه شخصيةٌ شبيهة بغاندي، إلى السلطة، وبدأ دوامةً من إراقة الدماء لم تنته بعد. كانت هذه بداية عام مضطرب غيّر ديننا وسياستنا إلى الأبد”.
قام رجال الدين الذين تولوا الحكم في إيران بترسيخ المذهب الشيعي، ما أدى إلى انتشار شعور بالحماسة في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، والتي عاش فيها دين، وجاء منها لقبه في وقتٍ لاحق “أبو عباس الشرقي”. لكن هذا البعد الطائفي والمتطرف لم يكن واضحًا في ذلك الوقت، وكان السنة مثلهم مثل الشيعة يتمتعون بالجرأة. لكن دين اعتبر أن ظهور أيمن الظواهري، على سبيل المثال، وهو الزعيم الحالي لتنظيم القاعدة، كان حالة خاصة.
طوال عام 1979، وقعت أحداث أخرى غذّت التوجه الجهادي المتطرف الوليد: التوجه نحو أسلمة باكستان بصورةٍ مكثفة، تحت قيادة الجنرال محمد ضياء الحق، وزيادة مستويات الدعم للإسلاميين في أفغانستان، والاستيلاء على المسجد الحرام بمكة من قبل أتباع جهيمان العتيبي، ثم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي اعتبرها الإسلاميون دليلًا دامغًا على عدم ورع نظام أنور السادات في القاهرة. (“قتلت فرعون”، قال قاتل السادات، خالد الإسلامبولي، في إشارةٍ إلى حكام مصر قبل الإسلام. وأخيرًا، وليس بآخر، الحدث الرئيس التالي، المتصل بمقتل السادات، وهو غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان.
في ديسمبر 1979، وقع الاتحاد السوفييتي في ورطةٍ بسببِ نظرياتِ المؤامرة التي تبناها– والتي ترى أن النظام في كابول يستعد “للقيام بما قام به السادات ضد الاتحاد السوفييتي” عن طريق أن تتحول أفغانستان إلى المعسكر الغربي، وأن حفيظ الله أمين‎ نتيجة الخوف من الثورة الإسلامية في إيران، على وشك إبرام اتفاق مع المتمردين المجاهدين لإقامة نظام إسلامي سني، وهذا من شأنه أن ينشر عدوى عدم الاستقرار محليًا في الجمهوريات السوفييتية ذات الأغلبية المسلمة في آسيا الوسطى، ومن ثمّ، قرر السوفييت أن الغزوَ هو الحل الوحيد. فقام الجيش الأحمر باحتلالٍ وحشي لأفغانستان على مدى السنوات التسع التالية، ما أدى إلى توافد المجاهدين العرب، بمن فيهم الظواهري وأسامة بن لادن، مسلحين بالأموال والعلاقات والرجال، قادت في النهاية إلى ظهور تنظيم القاعدة في فترة التسعينيات.
كيف أصبحتُ متشددًا؟
يزعمُ أيمن دين أن سببَ ميلِه إلى الأفكار المتشددة، هو اعتناقه التفسير الذي قدَّمه تيار الصحوة المعارض في المملكة العربية السعودية، في أوائل التسعينيات، للإسلام. فقد انضم دين إلى مجموعةٍ دراسية صحوية وكان من بين الدروس الأولى التي تلقاها فيها، على سبيل المثال، التوقف عن مشاهدة برنامج “السنافر” -برنامج الرسوم المتحركة- لأنه كان “مؤامرة غربية لتدمير نسيج المجتمع”. ابتعدت المجموعة عن هيئة كبار العلماء باعتبارها صوت المؤسسة الدينية الرسمية، ويقول دين: “كان أصدقائي ومرشديّ ينجذبون أكثر نحو النشاط السياسي، الذي كان نموذجه الأفضل هم جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم كان ما يقومون به من نشاط وعمل اجتماعي وسياسي سري هو المفضل لديهم، وكانت قراءة أعمال منظر الإخوان المسلمين سيد قطب، وشقيقه محمد هي القراءات الأساسية لنا”.
في أكتوبر 1994، وبينما كان دين قد بلغ الـ 16 ربيعًا، سافر إلى البوسنة مع ثلاثة آخرين. كان دين وقتها متعاطفًا مع الحركاتِ الإسلامية في الجزائر، وما تقومُ به جماعاتُ الإسلام السياسي في مصر، وإن كان لا يزال فكره بعيدًا عن أن يكون ثوريًا. وقد سافر معه صديقه خالد علي الحاج (أبو حازم الشاعر)، وهو من المجاهدين العرب في أفغانستان، والذي سيتولى، لاحقًا، بحلولِ أواخر عام 2003 تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية؛ القوة المتمردة التي ظهرت عندما عاد الجهادُ إلى المملكة.
يقدِّم دين لمحةً عن الطريقة التي كان يفكر بها وهو على مشارف دخول عالم الجهاد، ويروي أن خالد سأله وهم في طريقهم إلى البوسنة خلال تناولهم الطعام، “كيف تريد أن تموت؟” وصف دين ردَّ فعله على هذا السؤال الكئيب، قائلًا: “رغم كآبة السؤال، لكنه كان حافزًا لي، في الواقع لقد قمنا بالرحلة لهذا السبب: لنضحي بحياتنا من أجل القضية التي نؤمن بها، فالموت حاضرٌ بقوة في سبيلها”.
في البوسنة، توجه الرباعي إلى زنيتشا، أحد معاقل الجهاديين الذين هاجروا إلى الدولة لمساعدة الحكومة في حربها ضد الميليشيات الكاثوليكية الكرواتية، والأرثوذكسية الصربية التي تلقت الدعم من زغرب وبلغراد على التوالي. كان العديدُ من المسلحين الإسلاميين من حركة الجهاد الإسلامي المصرية التي يقودها الظواهري قد انضمت إلى المجاهدين هناك، في الوقت الذي كانت تخوض الجماعةُ الرئيسية في مصر صراعًا دمويًا مع الحكومة المصرية، يذكر أن الجماعة سوف تنضم لاحقًا ورسميًا إلى تنظيم القاعدة، وذلك قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
كانت الرؤية العالمية للقاعدة في طور التشكل في البوسنة، واستخدمت تعاليم سيد قطب ليس فقط لحشدِ المقاتلين محليًا بل لمنحهم شرعية الجهاد العابر للحدود الوطنية، والتمهيد لفكر إسقاط الحكام العرب، كالأسرة المالكة السعودية، وهو أمر لم يكن مطروحًا من قبل لدى الجهاديين، ودين منهم.
العامل الآخر الذي ساعد تنظيم القاعدة فعليًا على التحول إلى العالمية هو إيران، لكن دين رغم الإشارة بوضوح إلى أن مجيء الجمهورية الإسلامية هو الذي استهلّ كلَّ هذه التطورات، لكنه لا يعترف -ولسببٍ غير معروف- بأن إيران هي من المحركات الرئيسية لهذه الفوضى. فخلال حرب البوسنة، قام الحرس الثوري الإيراني بتدريب معظم المتشددين الإسلاميين وقيادتهم، وتولت وزارةُ الاستخبارات التابعة لها عمليًا قطاع الأمن البوسني.
الشيء الوحيد الذي يذكره دين، فيما يتعلق بدور إيران في التعاون مع تنظيم القاعدة، هو “الخوف المتزايد من أنّ إيران قد أصبحت مركزًا لوجستيًا للقاعدة”، بعد عام 2003، واكتشاف أن بديل قائد العمليات الخارجية للقاعدة، خالد شيخ محمد، بعد اعتقاله في باكستان، كان حمزة ربيعة الذي يقيم في إيران. ويمكن اعتبارُ هذا الأمر ثغرةً ملحوظة في الكتاب، وإن كان يمكن تفسيرها من خلال كونها لم تكن تقع في دائرة اختصاص دين المباشرة.
الجهادي المتجول
مع انتهاءِ الحرب البوسنية، ولَّى دين وجهه شطر الشيشان، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى هناك، وانتهى به المطاف في أفغانستان في معسكر تدريب “دارنتا” سيئ الذكر. يصف دين المعيشة المتقشفة والكئيبة في أفغانستان- وأنه في مرات نادرة كان يتمكن فيها ورفاقه الحصول على “شوكولاته مارس”، فإن هذا اللوح الصغير كان يقسَّم على خمسة أشخاص. ومع ذلك كانوا يشعرون بالارتياح؛ لأنهم كانوا طليعةً تمهِّد الطريقَ نحو تحقيق مشيئةِ الله.
من هناك، ذهب دين، مع خالد، للقتال مع “جبهة تحرير مورو الإسلامية” في الفلبين، ويروي أنه بينما هو على متن طائرة كويتية، تم نقله للجلوس في الدرجة الأولى، واصطحابه لمقابلة الطيار، بعدما تبين أن ضابط الأمن الموجود على متنِ الطائرة فقد أخاه في وحدتهم الجهادية في البوسنة. وهنا يقول دين، “هكذا كنا نعامل وقتها… ولو في الوقت الحاضر لكنا على لائحة الانتربول الحمراء والقوائم الأمريكية للممنوعين من السفر…”.
لكن يبدو أن فكرة دين الرومانسية عن الجهاد، نيابة عن المسلمين المضطهدين، لم يستمر التعاطي معها طويلًا بحفاوة كما كانت تجربته في الطائرة الكويتية، وسرعان ما بات كما يصف: “في غضون سبعة أشهر… كنت أكثر عُرضةً للموت من لدغة الثعابين عما كان عليه الوضع في مواجهة عسكرية… لكني أُصبتُ بعد ذلك بشظايا قذيفة هاون وجرى إعادتي إلى أفغانستان”.
في طريق العودة الى أفغانستان، تم نقل دين عبر باكستان وقضى وقتًا في منزلٍ آمن يديره زين العابدين حسين، عضو تنظيم القاعدة الذي أصبح معروفًا للعالم باسم “أبو زبيدة”. وبعد قرابة الشهر عاد دين إلى أفغانستان وطُلب منه أن يبايع بن لادن شخصيًا، وهو ما فعله في قندهار في سبتمبر 1997. حثّ أبو حمزة الغامدي دين على هذه المبايعة، والعمل مع تنظيم القاعدة “المركزي”، بدلًا من “الجبهات” الجهادية، مستخدمًا حججًا تتعلق بالحياة الآخرة، حيث قيل له إن “عصر النبوءات النهائية” قادم، وتنظيم القاعدة سيكون “جيش المهدي المنتظر”. تكررت هذه الأفكار المتعلقة بنهاية العالم طوال تجربة دين مع تنظيم القاعدة، وهو أمرٌ يتناقضُ مع الكثير من روايات الجماعة، التي تُصور قادتها على أنهم أرستقراطيون، يحتقرون مثلَ هذه الخرافات.
وهكذا، تعامل دين مع كبار المسؤولين في تنظيم القاعدة، مثل محمد عاطف (أبو حفص المصري)، مهندس العمليات في تنظيم القاعدة، وأحد الرجال القلائل الذين كانوا يعرفون عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قبل وقوعها، وجرّب صناعة القنابل، والأسلحة الكيماوية والبيولوجية في معسكر دارنتا، وعمل تحت قيادة مدحت مرسي السيد عمر (أبو خباب المصري).
أثار ذلك مشاعر عدم الارتياح لدى دين، وكان الهجوم الذي وقع في أغسطس 1998 على سفارات الولايات المتحدة الأمريكية في شرق إفريقيا بمثابة القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير. ذلك أن دين يؤمن بأن القرآن يُحرّم الانتحارَ، وكان يعارض بشدة الهجومَ الانتحاري الذي قامت به الجماعة الإسلامية في نوفمبر 1995 على السفارة المصرية في إسلام أباد، واعتبر أن رجال الظواهري قد تجاوزوا الخطوط المسموح بها. بالنسبة لدين، كان قتلُ مئات الأفارقة، كثير منهم مسلمون، من أجل قتل عشرات الأميركيين، شيئًا لا يمكن تبريره.
التخلي عن النزعة الجهادية
بحجةِ الحصول على الرعاية الطبية، يسافر دين إلى قطر، حيث ينوي “الخروج، والاختفاء”. لكن الاستخبارات القطرية تلتقط دين، وبعد إفصاحه لهم بمعلوماتٍ تتعلق بدور أبو زبيدة في توفيرِ جوازات السفر للشبكة التي تقف وراء هجمات المترو في باريس، والعديد من المعلومات الأخرى، التي تم التحقق منها، ومن صحتها، اقتنعت الاستخبارات القطرية أنه قد غيّر توجهه، وأنه قرر ترك الجهاد. وبعد مرور تسعة أيام من “الاستجواب المهذب والحازم في آن واحد”، كان على دين أن يختار المكان الذي سيتم إرساله إليه: فرنسا، الولايات المتحدة، أو بريطانيا. وعن هذا الأمر، يقول دين:
كان لديّ نصف ساعة كاملة لأقرر فيها بقية حياتي… شعرت بتقارب ثقافي ضعيف مع الفرنسيين، ولم أكن أتحدث الفرنسية. ولم أكن أثق بالأمريكيين، ونظرًا لغضبي المستمر من اتفاقات دايتون، كانت فكرة التحدث إليهم خطوة مستحيلة. تخيّلتُ (هل كان فيلمًا من أفلام التجسس؟) أن البريطانيين كانوا أكثر مهنية من وكالات الاستخبارات الأخرى. لقد فهموا العالم العربي، ومكثوا هنا لفترة طويلة. كنت قد استمتعتُ بوجودي في لندن عندما حصلت على الهاتف الذي يعمل عبر الأقمار الصناعية. كان هناك سبب آخر. كان جدي قد حارب العثمانيين من أجل البريطانيين في حملةِ بلاد ما بين النهرين في الحرب العالمية الأولى. وترقى إلى رتبة رائد، وأصبح رئيسًا للشرطة في مدينة البصرة العراقية. وكان دائمًا يشيد بالإدارة البريطانية… بعدما شارفت نصفُ الساعة المحددة لي على الانتهاء، أُدخلت إلى مكتب العقيد مرة أخرى. قلت له: “أنا مستعد للذهاب إلى لندن”.
بعد توقفٍ مؤقت ومقلق في البحرين، حيث كان دين رجلًا مطلوبًا، لأن عملية “ثعلب الصحراء” بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا ضد صدام حسين أغلقتِ المجال الجوي فوق الخليج، يهبط دين في بريطانيا في ديسمبر 1998. ومن بين أول الأسرار التي كشف عنها دين للبريطانيين هي أن مصطفى كامل مصطفى (أبو حمزة المصري)، إمام مسجد “فينسبري بارك”، الذي كان، بحلولِ ذلك الوقت، شخصيةً معروفة لأجهزة الأمن، يقوم بتوفير التمويل لمعسكر دارنتا من خلال ابنه. ويخبر دين ضباط الاستخبارات بخططٍ لعمليات اختطاف وهجماتٍ على كنائس في اليمن، ويسلمهم ديسكات كمبيوتر تكشف عن خطط أبو خباب لارتكاب عمليات قتل جماعية. على إثر ذلك، تم اعتقال خمسة جهاديين بريطانيين في اليمن في 23 ديسمبر 1998، مما حال دون وقوع تلك الهجمات الإرهابية المزمعة، لكن ستة عشر سائحًا، من بينهم اثنا عشر مواطنًا بريطانيًا، تم اختطافهم بعد خمسةِ أيام من إفادة دين للاستخبارات البريطانية.
الحياة في لندنستان
من الأجزاء المهمة في كتابِ دين، الجزء المتعلق بالشخصيات التي يتفاعل معها دين في لندن، وبعد استخلاص المعلومات منه، يتم إطلاق سراح دين ليصبح عميلًا للاستخبارات البريطانية، وسط المشهد الإسلامي في لندن بدءًا من عام 1999، والذي يوصف تبعًا لمسؤول مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض، “مشهد من حرب النجوم” للجهاد، حيث تواجد مزيجٌ مركز من المتطرفين الخطرين الذين قلّ أن تجد لهم مثيل في أي مكان في العالم.
اتصل علي الفخري (ابن الشيخ الليبي)، رئيس معسكر خلدن في أفغانستان، بدين لكي يوصله بسعيد عارف، رئيس جهاز الاستخبارات في تنظيم القاعدة في لندن ونائب عمر عثمان (أبو قتادة الفلسطيني)، أحد كبار رجال الدين في القاعدة حتى يومنا هذا، الذي كان يجمع في عام 1999 الكثير من الأموال في بريطانيا لقضايا الجهاديين في جميع أنحاء العالم. ربما أصبح عثمان “معتدلًا” نسبيًا في المشهد الجهادي، ولكن في منتصف التسعينيات، بموجب فتاوى تحمل اسمه، انخرطت الجماعة الإسلامية المسلحة في مذابح بالجملة في الجزائر.
لم يتوافق عثمان ومصطفى معًا، فلقد استاء عثمان من أن لمصطفى منصة أكبر رغم كونه مبتدئًا كرجل دين، فيما استاء مصطفى من كونه ورغم هيمنته على المنصة الأكبر، فإن السلفيين البارزين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى قد أولوا المزيد من الاهتمام لعثمان. تكررت هذه المنافسات الشخصية الصغيرة مرارًا وتكرارًا، فالجهاديون بشر أيضًا. وأخيرًا، فالمنافسة بين الواعظ البارز عمر بكري محمد، المؤسس السوري لحزب التحرير، الذي كان يتمتع بثقلٍ ديني أقلَّ بكثير من الآخرين، وإن كان وزنه البدني أكثر بكثير، وبين مصطفى ست مريم نصار (أبو مصعب السوري). وأيًا كان الأمر، فقد استطاع الثلاثة -عثمان، ومصطفى، ومحمد- جمع الأموال لأغراضهم الخبيثة.
أقام دين في شقةٍ متواضعة على طريق برايتون، في بورلي، جنوب لندن، وحصل على أجر من “العمل بدوامٍ جزئي في مكتبة إسلامية، إضافة إلى راتبٍ شهري قدره 1500 جنيه استرليني من خزانة صاحبة الجلالة”. وأصبحت شقته “مهجعًا” للجهاديين الذين يتنقلون عبر المدينة، ووقد زرعت الاستخبارات البريطانية أجهزة تنصت حتى يمكن الاستماع إلى زواره.
يُسلّط دين الضوءَ على مشكلةٍ كبرى في تلك السنوات، وهي التعامل الأمني في بريطانيا مع الجهاديين، ويشير إلى أنه لو كان الجهاديون قد اقتصروا في نشاطاتهم في بريطانيا على جمع التبرعات، فإنهم كانوا سيُتركون دون مضايقات إلى حد كبير. وكما يقول دين:
بدأتُ أشعر سريعًا بأن جهازَ الاستخبارات الداخلية غير مجهز للتعامل مع المشهد الشامل للتحريض الجهادي في جميع أنحاء لندن (وفي أماكن مثل برمنجهام، ولوتون ومانشستر). وكانت الموارد والتركيز موجهةً لأماكن أخرى، وقوانين مكافحة الإرهاب أضعف بكثير مما كانت عليه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمر. كان القانون قبل مطلع القرن الحالي يجعل من الصعب مقاضاة أي شخص لا يخطط بنشاط لشن هجومٍ على الأراضي البريطانية. وكانت قوانين اللجوء سخيةً، وعمليات الترحيل صعبة، وتستغرق وقتًا طويلًا. توافد الجهاديون إلى لندن من شتى أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا، مدركين أن الاعتقال غير محتمل طالما أنهم لم يعلنوا عن خططٍ لتفجير ميدان بيكاديللي.
العودة لأفغانستان.. وأحداث الحادي عشر من سبتمبر
في يونيو 1999، وتحت غطاء إنشاء شركة لعسل النحل لتنظيم القاعدة، يعود دين إلى أفغانستان، وهذه المرة كعميلٍ بريطاني. ويتعلم كيف يكتشف متى يكون موضع شك، وكيف يقرأ إشارات الوجه، وكيف يتهرب من الأسئلة المحرجة، من خلال التمسك بأقرب قدر ممكن من الحقيقة. عند عودته إلى أفغانستان، يكتشف دين أن أبو خباب طوّر مزيجًا كيميائيًا جديدًا للقنابل الانتحارية، باستخدام مادة تراياستون ترايبِروكسايد.
وتنقل حركة طالبان رسالةً إلى أستراليا، عبر دين، مفادها أنها ستمنع الجماعات الخاضعة لنظامها من مهاجمة أولمبياد سيدني في سبتمبر عام 2000 كوسيلةٍ لإثباتِ حسن النوايا. وفي يونيو 2001، تم إرسال دين إلى بريطانيا بتعليماتٍ من عاطف بالبقاء هناك حتى إشعارٍ آخر وإرسال أربعة من كبار شخصيات القاعدة إلى أفغانستان قبل نهاية أغسطس لأن “شيئًا كبيرًا” سيحدث.
توقف دين ورؤساؤه في الاستخبارات البريطانية كثيرًا وفكروا مليًا في هذا الاجتماع مع عاطف. وعن هذا الموضوع يقول دين: “في جلسات العصف الذهني التي عقدناها معًا، خمنا أن [شيئًا كبيرًا] قد يكون هجومًا آخر على سفارة أو تفجير منشأة عسكرية أمريكية في أوروبا”. وأضاف “فكرة أن القاعدة كانت تخطِّط لخطف عدة طائرات وصدمها بأبراج مركز التجارة العالمي، ومبنى الكونجرس الأمريكي، والبنتاجون، كانت أبعد من خيالنا ومن أسوأ مخاوفنا”. ويشير دين إلى أن حقيقة أنه لم يتم تجنيده للمشاركة في مؤامرة الحادي عشر من سبتمبر، فلم يكن بوسعه فعل شيء لمعرفة ذلك: فقد جزّأ مهندس العملية خالد شيخ محمد هذه المؤامرة وأخفاها عن معظم أعضاء القيادة العليا للقاعدة، حتى أن العديد من الخاطفين لم يعرفوا ماهية مهمتهم بشكل صحيح إلا قبل شهر أو نحو ذلك من الهجمات.
في وقتٍ ما من عام 2002، يجد دين نفسه عائدًا إلى البحرين، حيث سينتهي به الأمر بالتجسس على أخيه، وسيرسل ضابط استخبارات بريطاني للتحقق مما إذا كان دين سيختار “العائلة أو العمل”. بعد هذا السرد لتاريخ حياة دين حتى الآن -فهو في الرابعة والعشرين فقط في هذه المرحلة- يسأله الضابط:
“هل لديك أي شخص يمكنك أن تثق فيه كشريك؟ هل سبق أن كان لديك أحدٌ؟
يمكنني القول إنه كان يحاول الإيقاع بي.
“لا، مسار حياتي المهنية حال دون ذلك”
بإمكانه أن يعرف من نبرة صوتي، التي كانت تشي بنوع من الازدراء، أنه لمس وتًرا حساسًا. إن الانضباط المطلوب لأن أكون جهاديًا ثم جاسوسًا ساعدني على التعامل مع كل من الإغراء والكآبة لكوني أعزبَ، ولكن الحقيقة هي أنني أردت بشدة رفيقًا أخطط معه الحياة.
“هل فكرت في أنك قد تكون بذلك تقضي على حياتك الجنسية؟” لم أكن مستعدًا لذلك، وأجبتُ بغضب.
قلت “آه حسناً”. “أنا على وشك السفر إلى مهمة ليست خالية من المخاطر، وتريد مني أن أفكر في ما إذا كنتُ مثلي الجنس. بالتأكيد، أنا قادم من ثقافة تمنع اختلاط الرجال بالنساء، حيث يتم قمع النشاط الجنسي، ولكن بالنظر إلى معدل المواليد يتضح أنهم يجتمعون معًا في مرحلة ما. ويومًا ما، سأنتهز الفرصة إذا قابلت المرأة المناسبة لي. وسيكون آخر يوم لي في العمل مع المخابرات البريطانية”.
لم أعرف ما إذا كان [الضابط] رأى أن اعتراضي على كلامه جاء بصوت أعلى من اللازم. لكنه ضحك وغيّر الموضوع بسرعة.
بصرف النظر عن كون هذه الحلقة هزلية للغاية، فإنها تُسلّط الضوء على أحد الأسئلة التي تُترك للقارئ حول الكتاب: بما أنه تم الانتهاء من الكتاب في أوائل عام 2018، هل يمكنه حقًا أن يتذكر تفاصيل وانفعالات وتفاعلات ومناقشات بهذا المستوى من الدقة مرّ على أحداثها ما يزيد على ستة عشر عامًا؟
ربما يعتقد المرء أن هذه مجموعة قليلة من الحوادث المشحونة عاطفيًا، ولكن حتى في الحالات العاطفية المكثفة التي يجب أن تصاحب المرء كجاسوس وفي ظل “الذاكرة الفوتوغرافية” التي يتمتع بها دين، قد يتساءل القارئ عن كتاب كامل عن مثل هذه الحوادث التي تم سردها بهذا عمق.
ومع ذلك، يمكن أن نصدق أن يتذكر دين -وهو أمر يمكن للمؤلفين المشاركين التحقق منه- أن ذكاءه قاد لاعتقال بسام بوخوة والمتآمرين معه في فبراير 2003 أثناء توجههم عبر الجسر الممتد من المملكة العربية السعودية إلى البحرين، مع جهاز كمبيوتر محمول يحتوي على خططٍ عن المبتكر، جهاز تم تصنيعه باستخدام مدخلات ساهم بها دين في معسكر أبو خباب، كان من الممكن أن يطلق أسلحةً كيميائية في مترو نيويورك.
الرجل الذي وافق على عملية مترو الأنفاق، هو زعيم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، المتمركز في صحاري المناطق الداخلية السعودية، شخص يدعى يوسف العييري (السيف البتّار)، الذي كان قد حذَّر دين من مخاطر لعبة “السنافر”، طوال تلك السنوات الماضية. إلا أن الظواهري ألغى هذه المؤامرة؛ لأنه كان يخشى أن يستخدم مثل هذا الهجوم لتبرير غزو العراق الذي كان على بعد أسابيع من ذلك، من خلال إثبات أن صدام حسين زوّد القاعدة بأسلحة دمار شامل.
مع بدءِ التمرد في العراق، قفز الأردني الوحشي، الذي كان دين قد فسر له ذات مرة حلمًا في أفغانستان، أحمد الخليلة (أبو مصعب الزرقاوي)، مؤسس تنظيم داعش، قفز إلى الواجهةِ كزعيمٍ للتنظيم، مع بعض المساعدة من نظام صدام الذي قدّم له عشرات الملايين من الدولارات – كحد أدنى- من البنك المركزي عشية الغزو. وبعد وفاة العييري، تولى خالد الحاج، صديق دين القديم، قيادة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والتمرد الإسلامي السعودي.
عندما قُتل خالد في مارس 2004، كان دين في البحرين، وبعد إلقاء كلمة تأبين عن صديقه على مجموعةٍ من الموالين للقاعدة، وجد نفسه يواجه تركي البنعلي، الذي كان عمره آنذاك 19 عامًا، الذي أصبح أحد أبرز رجال الدين في داعش بعد عقدٍ من الزمان، وأصدر فتوى داعش التي تدعو إلى قتل دين. وقد حط البنعلي من قدر المجاهدين الذين ذهبوا إلى البوسنة؛ لأن ما قاموا به “لم يكن جهادًا لإقامة شرع الله على الأرض”. وهنا، كان يرى دين أن هناك واجبًا دينيًا يتمثل في “إنقاذ حياة المسلمين”. غير أن البنعلي لم يكن يؤمن بذلك. وخلص دين إلى أن البنعلي كان “مختلًا اجتماعيًا ومتغطرسًا”. ويرى دين أن الأحداث أثبتت ذلك.
نهاية الطريق
بعد أن ساعد في تفكيكِ شبكة القاعدة في شبه الجزيرة العربية داخل المملكة العربية السعودية -حيث تمكنت الرياض من دفعها باتجاه اليمن، حيث لا تزال موجودة- عاد دين إلى بريطانيا للعمل داخل المشهد الجهادي المحلي مرةً أخرى.
بدأت الشكوك تظهر حول إدارة الاستخبارات البريطانية لعملائها بعد خطةٍ فاشلة لتهريب بندقية إلى كينيث بيجلي، وهو مواطن بريطاني من ليفربول، أَسَرَتْه جماعةُ الزرقاوي، وحصل دين على الضوء الأخضر للتدخل، لكنه فشل في إنقاذ بيجلي، الذي تم قطع رأسه، وعرضت العملية على شريط فيديو بواسطة الزرقاوي في أكتوبر 2004، مما أدى إلى مقتل أحد أهم عملاء الاستخبارات البريطانية على يد جماعة الزرقاوي، التي سبقت ظهور داعش.
في يونيو 2006، تحققت هذه الشكوك عندما انتهى عمل دين كعميل بريطاني إلى نهايةٍ مفاجئة. فقد نُشرت تفاصيل مؤامرة مترو أنفاق نيويورك عام 2003، من خلال كتاب رون ساسكيند «مبدأ الواحد في المائة»، في شكل مقتطفات في مجلة “التايم”، وقدمت معلومات تعريفية كافية حول المُخبر داخل تنظيم القاعدة، مما أدى في النهاية لكشف دين.
اشتاط دين غضبًا من رؤسائه في الاستخبارات البريطانية، لعدم تمكنهم من حماية مثل هذا المصدر المهم، لكنه علم أنهم ليسوا مسؤولين عن ذلك، وأن ثمة “مسرحية أكبر [كانت] تجري. أراد البريطانيون أن يُظهروا للولايات المتحدة أنهم حققوا إنجازاتٍ تفوق وزنهم، وما زالوا يقدمون معلوماتٍ ثمينة، وما زالوا يعرفون كيف يجمعون المعلومات الاستخبارية البشرية، ويستخدمونها بشكلٍ أفضل من أي دولة أخرى. وفي هذه العملية، تبادلوا المعلومات التي ألقيت في “عجلة روليت” من التسريبات التي أظهرت أن الحكومة الأمريكية سيئة السمعة”.
وهكذا، يسرد هذا الكتاب “حيوات” دين التسعة ومهامه المختلفة ومواجهة الموت لأكثر من مرة، وربما الحكاية الأخيرة هي الأكثر حزنًا: انضمام ابن أخيه المحبب إلى قلبه إلى الجهاديين في سوريا، حيث يُقتل، وهو في سن 19 عامًا، في سبتمبر 2013، وسفر دين إلى قبره في مدينة سراقب. في تلك اللحظة يمكنه أن يرى إلى أين يسير هذا الاتجاه. المتمردون الذين قابلهم هم من السكان المحليين الذين يقاومون نظامًا قاسيًا وداعميه الخارجيين، خاصة إيران والجهاديين الشيعة. لكن هذه النزعة المحلية والافتقار إلى أيديولوجيا متماسكة، ورغم أنها توفر قدرًا من الصمود لبعض الوقت، تعني أنه مع السماح بإطالةِ أمد الحرب، فإن المتطرفين من ذوي العقيدة -أتباع القاعدة، وداعش، والحرس الثوري الإيراني، وحزب العمال الكردستاني– هم الذين يستطيعون أن يصمدوا برجالهم في ساحة المعركة.
الخلاصة
بعد هذه المساهمة الأخّاذة الفريدة من نوعها في الأدبيات الجهادية، التي قلّ أن تجد لها مثيلًا في مجال التجسس، يطرح دين بعض الأفكار الختامية، أبرزها أن الأيديولوجيا التي تدعم تنظيم القاعدة وداعش سوف تستمر، للأسف، في ظل توفر أعمال البنعلي، ومرشد الزرقاوي، محمد إبراهيم الصغير (أبو عبد الله المهاجر)، على نطاقٍ واسع.
من الصعب أن يجادل المرءُ في الخلاصة التي توصل إليها دين من أن الهجمات والغارات باستخدام الطائرات من دون طيار لن تكون كافية لهزيمةِ الجماعات الجهادية، وأنه يجب أن تكون هناك تسوية سياسية أكثر إنسانية ومصالحة طائفية لتجفيف الوقود الذي يغذِّي الجهاديين. غير أن الأمر المثير للجدل هو قوله بأن الإسلاميين المعتدلين والسلفيين المناهضين للجهاديين هم حلفاء في هذا الكفاح ضد الجهاديين. من ناحيةٍ أخرى، يشجِّع دين الجهودَ الرامية إلى نشر رواياتٍ وحججٍ تقارع حججَ الجهاديين على منصاتهم المفضلة، مثل تليجرام.
وختامًا، يرى دين أنه “ينبغي أن نساعد أولئك الذين لديهم حتى ذرة من شك”، وربما يكون العمل على إضعاف اليقين، الإنساني والتاريخي، الذي يقود لتبني العقيدة الجهادية، ومن ثم إعداد وتوزيع مواد يمكن أن تُحدث قدرًا كافيًا من التردد، هو في النهاية كل ما يمكن القيام به فعليًا.