كتابات وآراء


الخميس - 19 مارس 2020 - الساعة 05:58 م

كُتب بواسطة : مروان الغفوري - ارشيف الكاتب


الساعة الثامنة، بعد ساعة سنعقد اجتماعنا اليومي في الكافيتيريا. المسافة المطلوبة بين كل شخص وآخر لا توفرها غرفة الاجتماعات. قالت ميركل بالأمس في خطابها الهادئ: خذوا المسألة على محمل الجد. اعتذرت عن إجراءات العزل، وقالت "بالنسبة لشخص مثلي قادم من شرق ألمانيا أعرف جيدا قيمة حرية الحركة، فقد خضنا نضالا مريرا للحصول عليها. لا ينبغي أن يعتدى على هذا الحق إلا عند الضرورة القصوى". ثمة خوف وهلع، اختفى الحليب والدقيق من المتاجر. كنا قد جهزنا أنفسنا فقط بخمسة كيلو. بلغت الحالات هذا اليوم ١٢ ألف حالة في ألمانيا، بنسبة وفيات هي الأقل 0.2%. ثمة حالتان حرجتان في مشافي ألمانيا.

في العالم، هذه اللحظة: ٩ آلاف حالة وفاة و٢٢٠ ألف حالة إصابة. لا توجد إشارة إلى أن الفيروس في طريقه إلى خفض التصعيد.

ألمانيا هي رابع أكبر دولة موبوءة في العالم، ولاية شمال الراين أكبر ولاية موبوءة في ألمانيا، ومدينة إيسن رابع أكبر موبوءة في شمال الراين. أتحرك داخل هذا الحلزون المتداخل من سوء الحظ، وأواجه المرضى في شمال إيسن، في منطقة مكتظة بالسكان من كل الجنسيات.

تتدفق الأخبار المربكة من كل جانب، في حياتنا اليومية. زملاؤك يعزلون أو يصابون واحدا بعد الآخر، وأنت تنظر إلى المتبقين وتتبادلون النكات، فليس بوسعكم الهرب والاختباء مثل باقي الناس. نحن في الجبهة، تنتظرني كل يوم طفلة وزوجة حامل في الشهر الخامس. تبرم أحد الأطباء في اجتماع الأمس من الوضع، وسمع عبارات مثل: هدوء، لا خوف، سنصاب عاجلا أو آجلا، وسنواجه الكارثة، لا خيارات أخرى، ليس بوسعنا الهرب، نحن أطباء.

أعطتنا إيطاليا نموذجا سيئا لإدارة الأزمات، فقد واجهت الأزمة بنظام صحي متهالك، وبقادة شعبويين ينكرون الكارثة حتى اللحظة الأخيرة، وبمنظومة بيروقراطية خشبية تحول دون تحريك كل الإمكانات بالسرعة المطلوبة. ألمانيا الموبوءة الرابعة في العالم، بمجتمع رمادي (مسن)، تضرب مثالا لافتا.

إلى جوارها هولندا الرابضة على المجهول، حيث ينتظر ١٧ مليون نسمة كورونا بجاهزية لا تتجاوز ١٠٠٠ سرير عناية مركزة (ألمانيا:٢٨ ألف). حذرت منظمة الصحة العالمية هولندا بالأمس من الفكرة المتطرفة التي تزمع الحكومة الإقدام عليها: حقن السكان بالفيروس كلقاح. هذا فيروس غير مسبوق، تطور عن طريق انتخاب طبيعي، ينتمي في الأساس للفيروسات الممرضة للحيوانات، وقد نجح في اختراق الحواجز بين الأنواع الحيوانية واستطاع إمراض البشر. لسنا أمام انفلونزا موسمية، كما يروج شعبويو هولندا. يعتقد علميا أن الفيروس نجح في الوصول إلى البشر أولا، ثم تحول جينيا داخل الجسم البشري، وصار ممرضا. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بسلوكه، فهو قاتل في إيطاليا، لكنه قابل للترويض في ألمانيا، وهو فيروس الأراضي الباردة، لكنه برز أيضا في سنغافوره ودول خط الاستواء الدافئة طيلة العام، ينقله الشبان إلى كبار السن، وفي الأجساد السقيمة ينتعش. لو أقدم الراديكاليون في هولندا على خطوة "مناعة القطيع"، التي تراجعت عنها انجلترا، فقد تنفجر قنبلة في الجوار. إن أي خطأ مثل هذا قد يكون مدمرا لو أفلتت اللعبة وواجهنا مشهدا خارج السياق المتخيل. فالبلاد ذات الألف سرير ستتأزم فجأة. في شمال إيطاليا أتيح للفيروس حرية الحركة، وبعد التفشي اكتشف الطليان أن ١٨٠٠ سرير لا تكفي لتلك الحرب. وهناك قررت السلطات الطبية للخروج من "معضلة ترولليTrolley problem": إنقاذ الأقل سنا من كل اثنين، والأفضل فرصا في النجاة.

ثمة جانب إحصائي في هذا السرداب، فبعد أن توسعت كوريا الجنوبية في إجراءات الفحص وشملت النتائج حاملين بلا أعراض هبط معدل الوفيات إلى ما تحت ال ١%.

ترفض الدول الأوتوقراطية كالصين وروسيا الاعتراف بالحقيقة، وتتهم الدولتان أميركا بالوقوف خلف الفيروس. يحيل الإعلام الروسي في تناولاته المستمرة إلى ظنون ينشرها غلوبال ريسيرتش، وهو مركز بحث كندي تمويله روسي! سبق لروسيا، في الحقبة السوفيتية، أن فعلت الشيء ذاته في ثمانينات القرن الماضي مع فيروس الإيدز: صناعة أميركية. كان المصدر الذي يحيل إليه الإعلام السوفيتي آنذاك هو صحيفة هندية أسسها الكي جي بي! حينها قيل إن الإيدز هو ال Operation infection، أو العملية عدوى! وأنها حرب تشنها أميركا على العالم.

مؤخرا قامت الصين بإلغاء إقامات كل الصحفيين الأجانب،ثم أعلنت النصر! يقيم النظام الصيني الخطورة: العالم مغلق، هذه فرصة، الوفيات في عموم الصين بلغت 0.7%، أغلبها من كبار السن، لا داعي للخوف، لنفتح المتجر، الرحمة على من سيموت. عادت المصانع لتعمل بنسبة 60%من قدرتها، وفي طريقها إلى الأعلى. سيتغير العالم بعد كورونا إلى حد كبير، كانت هذه هي الجملة المركزية في خطاب رئيس وزراء النمسا بالأمس.

نواجه تحديا حقيقيا على كل الأصعدة، ويتسلل الشعبويون من خلال الفيروس لتمرير خطاباتهم ومنظوماتهم السياسية. يردد أوربان في هانغاريا: لقد حذرتكم من المهاجرين، هاهم قد جلبوا الفيروس. ويستغل الرئيس الفلبيني الوضع العالمي ليعلن حالة طوارئ لمدة ستة أشهر للإفلات من الضغط الشعبي بخصوص الحريات وحق التعبير والتجمع. وتسمح أنظمة أخرى لنفسها بالتجسس على هواتف الناس بحجة مكافحة الفيروس ... إلخ.

لا أحد بمقدوره التنبؤ بسلوك هذا الفيروس، ابقوا في المنازل، لا تتصلوا جسديا بالآخرين. فما جرى في مقاطعة ووهان وفي الشمال الإيطالي يعطينا صورة مقلقة عن بعض التمظهرات القاتلة لهذا العدو اللعين.

نهاركم سعيد

م.غ.