كتابات وآراء


الأربعاء - 14 ديسمبر 2022 - الساعة 10:33 ص

كُتب بواسطة : مروان الغفوري - ارشيف الكاتب



وُلد أبي في وادي الضباب، وكان المولود قبل الأخير ل جَمالة، المرأة التي كانت ملاحتُها تحرس الوادي من جهة الغرب. كان جدّي رجلاً ميسوراً، عاش 99 عاماً، حجّ 14 مرّة،تزوج خمس مرّات، حصل على عشر بنات وستة أبناء، وتعلم الفقه والتاريخ في طريقه. أنجب آخر بناته بعد أن تجاوز السبعين. وكان أحمد ولداً وسيماً، عنيداً، وذكيّاً.

ألحقه بالمدرسة في تعز، ولأن الطريق من وادي الضباب إلى المدينة لم يكن بالهيّن في ذلك الزمان، فقد تغيّرت الأقدار. لم يحتمل جدّي سماع القصة نفسها كل يوم: الطريق طويل، أبناؤه يتلهّون بالصراع والقتال. كانوا من أكثر من أم، وذلك ما زاد الطين بلّة. سأعلمهم القرآن، وعلمهم القرآن.

على أحمد أن يصير فلّاحاً. اشترى له والده حرّاثة، صار أحمد يحرث أراضي الوادي. تزوّج. حملت زوجته، ماتت أثناء الوضع مع الجنين. كانت تلك هي الضربة الأولى القاسية التي تلقاها من الدنيا. ستتوالى الضربات، ويوماً ما سيتوقف عن الاكتراث، سيواصل حياته.

لم تلبّ الحرّاثة طموحه. عليه أن يمارس شيئاً آخر، كان يبحث عن كلمة السر المفقودة. حسناً: اشترى "وايت" لنقل الماء. صار ينقل الماء إلى مدينة تعز. نسي تلك القصّة،نسي تفاصيلها، كان يتذكر فقط أنه وهو يدخل المدينة، قادماً بالماء، سمع النساء يتصارخن "الله يقتله من قتلك". فهم أن رجلاً جليلاً قد قُتل،عاد بالماء إلى الوادي، قال إنه هرب من حقيقة لم يكن مستعداً لملاقاتها. كان ذلك في أكتوبر، 1977. أخافته تلك الحكاية،جعلته يرتاب في كل شيء.

تزوّج المرأة الثانية. أنجبت. مات الطفل بعد الولادة. تريث الزوجان بعض الوقت. حملت مرّة أخرى، أنجبت. منح الطفل اسماً: مروان. تخلّى عن الوايت، لقد صار أباً لطفل لم يمُت. أخيراً صار أباً والطفل على قيد الحياة. انتعشت الحاجّة جمالة بالمولود، قالت هذا ابني. وهكذا صرتُ ابناً للجد والجدة. أما أحمد فأرسله والده إلى السعودية،أرهم كم أنت رجُل، وصّاه الأب. هناك افتتح محلّين للخياط، لا أعرف الكثير عن تفاصيل تلك المُغامرة، مغامرة الستة أعوام، التي انتهت بترحيله من السعودية. كان يأتي ويذهب. عاد بصورة كبيرة له، علقها على حائط غرفته، كانت ملاحته تخطف الأنظار. خافت أمّي،ذهب إلى السعودية وسيماً أما الآن فقد صار بهيّاً. وعندما آبَ إليها مرحّلاً تنفّست الصعداء. صار معروفاً ببناطيله الواسعة من الأسفل، بقمصانه المفتوحة من الأعلى، وبشعره السائب، وكان يحبّ القصائد. كان ذلك في الماضي، حين كان يرى أن الدنيا تستحق منه كل ذلك التحدي.

وهو لا يزال في السعودية أسس مشروعاً في اليمن مع شقيقه قائد، الأكبر منه. صار الشابان يملكان محطّة بنزين [سيصبح اسمها محطة الكباب بعد تصفية المشروع]، ومزرعتا دواجن [بسعة تتجاوز العشرة آلاف فرخ، لا تزال هناجرها قائمة حتى الآن]. سرعان ما صار أحمد بلا مشروع، كان عنيداً، لم يكن بالرجل الذي سيجلس لينظر في الأوراق، كان يفكّر بأن يصير صحفيّاً. أكمل شقيقه المهمة وحيداً. التحق أحمد بالمدرسة في الثلاثين من عمره، كان عميق الثقة أنه سيجد طريقاً إلى العلم. صار طالباً في سادسة ابتدائي.

أكمل السنة "منازل" ولم يذهب إلى الامتحانات. "صدمة السعودية" ستغيّر كل شيء في حياته. عشق كرة القدم، أعطاها كل وقته في السعودية، لعب، شكّل فريقاً،بات يرى نفسه ناقداً رياضيّاً، وهناك التقى شبّاناً في عُمره من خريجي الجامعات. الشاب المعتد بنفسه جُرح كبرياؤه،أصيب تصوره للعالم بهزّة. هزمه أولئك الشبان السعوديون الذين لم يكفوا عن الحديث عن جامعاتهم، بعثاتهم الدراسية، وعن وظائفهم الرفيعة. سينقل شعوره ذلك إلى ولده الأكبر "مروان" ألف مرة، وأكثر. ساءه كل شيء حوله: الزمن، الظروف، والناس. كما لو أن كل شيء تآمر عليه ليحول بينه وبين أن يكون صحفياً أو موظفاً رفيعاً أو شكلاً ما من تلك الأشكال الحديثة التي خطفت بصيرته.

اكتشف، في السعودية، عبقرية أن يكون المرء صحفياً أو كاتباً، ومهابة أن يكون حاملاً لشهادة جامعية. كان يقرأ الصحف، وصار بمقدوره أن يستعرض معرفته أمام خريجي الجامعات السعوديين. منحته الصحف تعويضاً نفسياً، وتمنّى لو أن إقامته هناك تدوم طويلاً، كان سيغلب المزيد منهم، سيستعيد جزء من تيهه.

جاء عقد التسعينات بكل فوضاه. راح أحمد يتنقّل بين مشروعاته، اشترى سيارات أجرة، اشتغل على واحدة وأجّر رجلاً لآخر ليشتغل على الأخرى. أصيب في حادث سير، كسرت ساقه وذراعه. كنتُ في القرية حين جاءنا الخبر، وكانت أمي تبكي بصوت عال "الراس مَقْتل". قيل لها إنه أصيب في رأسه. فور تعافيه غادر المهنة الجديدة، سمعته آنذاك يبرّر موقفه "السيارات لعنة أرسلها الله على بني آدم". في عام الإصابة ذاك، 1990، كبرتُ سنوات عديدة، ساء وضع الأسرة، وبقي أحمد الغفوري محتفظاً بتماسكه وغضبه. هذا الصباح قال لي طبيب العناية المركزة، الذي أشرف على حالته " لم أر في مثل صلابته، كان يطمّني ويشد من معنوياتي قبل ما أنا أطمنه وأشد من معنوياته".

رزق توأماً، أسمى الطفلين: بسام وهيثم. قال لأمي إنه أصبح جاهزاً الآن ليُرد على الدنيا، عليه أن يحضر أولاده ليردوا له اعتباره. اتخذ القرار الأخطر: منع أطفاله من مخالطة أطفال الآخرين، من مشاهدة التلفاز، من ممارسة أي نوع من اللعب. وعندما علم أني تسللت إلى بيت الجيران لأشاهد حلقة من مسلسل "قصة" كرتوني، كنت في الثامنة، استدعاني، رفعني إلى الأعلى وقال بحزم: في المرة القادمة سأقص لسانك. بقيت تلك الجملة تملأ فراغ غرفتي، وفراغ كل غرفة سأجلس فيها للقراءة. عشنا، أشقائي وأنا، زمن مسلسلات الأطفال الشهيرة ولم نحضرها. اخترع الجملة التي لن أنساها: خمس صفحات ظهر وبطن. ما إن بلغتُ الثامنة حتى صار عليّ أن أكتب كل يوم عشر صفحات، كان يقول إنها مجرد خمس صفحات ظهر وبطن. أن أكتب في أي شيء، ألخص ما قرأته، أتخيّل، على أن لا تكون حول المنهج الدراسي.

وكان يؤوب كل مساء، مع الغروب، وأول ما كان يفعله هو أنا. أقف أمامه، كنتُ أرتجف. أقف وأرتجف. في غرفتي علق "عصي الخيزران" على ثلاثة حوائط، وضعها على "علّاقة" الملابس. عشت سنوات مع فزّاعة الغربان تلك، كان يضعني في معاينة مباشرة مع الجحيم.

يسألني عمّا كتبته، أضع الدفتر أمامه. يفحص الخط، الإملاء، يتأكد ما إذا كنتُ قد احتلْتُ بشيء، قفزتُ على سطر أو تركت فراغاً كبيراً بين الكلمات. يناقشني في المكتوب. غالباً ما كنتُ أجتاز ذلك الامتحان اليومي. في واحدة من الليالي أيقظني. عاد متأخّراً ولم يفته أن يفحص ما فعلته. استيقظت مرتجفاً، أجبته: ما معيش قلم. كانت تلك ليلة صعبة للغاية. قام بالبحث عن قلم، وجد ماسورة قلم مرمية في مكان ما، تلك الماسورات الحبريّة الرفيعة التي تتبقى لنا بعد أن ننهي أقلامنا عضّاً، وأمرني: اكتب الآن. انتصف الليل وأنا أكتب دامعاً، لم أكن قد تجاوزت التاسعة. بعد الصفحة السادسة قبل شفاعة أمّي. حشى غرفتي بالكتب والجرائد. أمرني أن أحفظ الميثاق الوطني. حفظت النص حتى منتصفه. لم أفهم معنى "حتمية الأشياء" التي في المقدمة، وخشيتُ إن أنا سألته أن يحدث شيء رهيب.

ذهب بعيداً وأمرني بحفظ افتتاحيات صحيفة الجمهورية، أو أي عمود من الصفحة الأولى. قال إنه يدربني على الحفظ. كانت تلك المهمة الأصعب. فعل معي ما يفعله مدرب كونغ فو مع تلميذ شريد.

ثم أصبح الوقت مواتياً لأحمد كي يقدّمني إلى الناس. صار يصطحبني إلى العزاءات والأفراح، يستغل لحظات الصمت ويوجّه لي الأسئلة، فأرد. أسرد من شعر العرب وأمثالهم، وأتحدث عن التاريخ، وأقول شيئاً من ألف ليلة وليلة، ومن الحديث. أعرف مدى إتقاني من الطريقة التي تنظر بها عيناه إلى الناس. كنتُ مشروعاً لأحمد الغفوري، وكان يختبر مشروعه من وقت لآخر. في ليلة عيد، قبل أن أبلغ العاشرة، أيقظني من نومي ونقل لي الخبر: اتفقنا على أن تلقي أنت خطبة العيد غداً في المجهُب. وهو مكان يطل على مدينة تعز من الغرب، يشبه حاملة طائرات، يلتقي فيه الناس من كل قرى الجبل ويصلّون العيد. إذا وقفت في المَجهُب فأنت تقف في عرفات. اتخذتُ قراراً في سرّي: التملّص. في المجهُب بحثوا عني ولم يجدوني، ثم قام رجل وقرأ من كتاب. وكان مساء ذلك اليوم صعباً علي وعلى أمّي.

لم يتوقف أحمد عن اصطحابي ليري الناس كم أحفظ، وكيف علّمني. وفي مرّة انفجر ديوان بالضحك لأني قرأت "لها ما كسبت" بكسر الكاف. ذلك أن كسبت، بفتحها، كانت بالنسبة لي تعني النعجة. كبر الولدان الآخران، بسام وهيثم، ومرّا بالتجربة نفسها لبعض الوقت. لاحظ أحمد أن "تجربته" آتت أكلها معي سريعاً، مقارنة بشقيقيّ اللذين يتمتعان بذكاء عال [أحدهما في الشرطة، الآخر في بحث الدكتوراه في الطاقة] وكانا قادرين على مناورته.

ومرّة عادة في المساء المتأخر، لن أنسى تلك المرّة. كنتُ قد اضطجعتُ للنوم. ناداني. وقفتُ أمام باب غرفته، استلقى وأدار رأسه إلى الحائط. سألني عن امتحان اللغة العربية [امتحان نصف السنة] قلتُ له إني أديت بشكل جيّد. سألني "من هم علماء الاجتماع؟" فأسقط بين يدي. في سؤال التعبير حول "الغزو الأخلاقي" اقتبست حيناً، وأحلتُ أحياناً أخرى إلى "علماء الاجتماع". بقيتُ صامتاً. قال "حصلت على 13 من 20" بسبب استعراضك. تركني ونام. غرقت في دموعي، وكنت جالسا في مقابلة الفانوس، وغفوت. غير أن أمي أيقظتني قبل منتصف الليل وأخبرتني أني حصلت على العلامة الكاملة. التقى أبي بالمعلمين صدفة أمام المدرسة وأخبروه بما كتبته في "سؤال التعبير"، وأنهم قرروا منحي العلامة الكاملة في اللغة العربية بشكل استثنائي، بمخالفة للعُرف. أراد، كعادته، أن يضعني أمام تحدي، أن يضعني في مواجهة الهزيمة، أن أتذوقها، أعرفها، أراها رأي العين.

سمعته يقول لأمي، وأنا في ثالثة إعدادي، قريباً سأرتاح. وسمعتُ أمي تتطلب منه أن يخفّف الضغط على ابنه الأكبر، وسمعته يقول لها إن ما يفعله مجرد "ترانزيت" قبل الإنطلاق. بعد تلك الجملة لم أسمع لأمي حسّاً، وتمنيتُ لو أني أعرف المعني لأساعد أمي. بقيت تلك الكلمة لازمة في لغة أبي، وصرتُ أفهم ما يُريد قوله. كنتُ مشروعاً لأحمد، كان يريد أن يدحر ماضيه أو أصحابه أو أولئك الذين تباهوا عليه بشهائدهم، أو أولئك الذين اضطروه إلى السكوت يوماً ما. لا أدري. لا أريد أن أدري. كان أحمد صديقي، ولطالما منّيتُ نفسي بأن نكمل معاً في المستقبل، أن أجعله يروي، يقص، يحكي، يفشي أسراره، هزائمه، خوفه، والأشياء الأخرى التي منعته صلابته حتى من التفكير فيها. اختفى فجأة. تحدثتُ إليه قبل أيام بالصوت والصورة، كان يحاول أن يلتقط كلامي، وكانت حالته الصحية متعبة جدّاً. قلتُ له سنشاهد كأس العالم معاً، هناك ابتسم. ابتسم بصعوبة بالغة، فهمت لماذا. أخيراً اهتم ابنه الأكبر بكرة القدم. لطالما حلُم بأن يتبادل معي الحديث حول "الكورة"، وكانت الكرة كتاب المعرفة الخاص به، ولم يجد حلمه طريقاً. الآن، أو أمس، سمعني أقول: الكرة. كان سعيداً، لقد وجداً ميداناً جديداً للحديث معي، كتاباً سيغلبني فيه.

كان أحمد الغفوري يمنيّاً في كل حياته. وكانت متاهته يمنيّة. وكلما عاتبه أحد كان يقول "قل لهم يا سيفُ ما معنى الرهان، إن سيف الشرق حرّ لا يُهان". وأحياناً يقول إن سيف العُرْب. لم أقرأ هذا البيت في أي كتاب، وظننتُ أنه اخترعه ليحمي به قراراته، وليحرضني على الآتي من الزمن. وفي مطار صنعاء 1998،وهو يودّعني لأوّل مرّة،كتب على كفّي"هنا الجوع والفقر والمرض" ثم أغلق يدي، وأعاد القلم إلى جيبه. كان هناك قلمٌ في جيبه دائماً. لم أفهم ما أراد قوله آنذاك، خمّنتُ: يُحضرّني لمعركة طويلة ضد كل شيء، أو ضد الأشياء التي صنعت كل شيء. من وقت لآخر، حتى الساعة، افتح كفّي وأرى كلماته. في ذلك الفجر، وكنّا دفعة من ثلاثة وثلاثين طالبة وطالباً، صلّيت بالناس إماماً في واحدة من صالات المطار. لم ينس أحمد تلك اللحظة. عُدتُ من سنتي الدراسية الأولى فاستقبلني للمرّة الأولى كصديق.

أصبح الأخ أحمد الغفوري. وحين اختلفتُ معه حول فكرة قلتُ لا، ثم جلسنا يحدق كلانا في الآخر لبرهة. كانت أول "لا" يسمعها مني في حياته، وكانت إيذاناً كونياً بأننا أصبحنا صديقين. أمضيتُ أسبوعين في اليمن، وخلال أيام الأسبوع الثاني استدعيتُ لزيارة امرأة في القرية تعاني من الحُمّى. كنت طالباً أنهى سنته الأولى في كلية الطب، ولكن أحمد سمح لنفسه بأن يصدّق أن ابنه صار طبيباً. حتى إنه وضع يده على كتفي وقال لي شيئاً عن الماضي وهو ينظر إلى الشفق.
ومازحني "قرأتَ عليها؟"
أجبته بضحكة.
فقال بلهجة بين الجد والهزل:
لا تسخر من حكمة الأوّلين.

وفهمتُ ما أراد قوله.

.. يتبع

مروان أحمد