



في عالم المجوهرات الراقية، حيث يلتقي الفن بالحِرفية وتتجسد الرؤى في تفاصيل مبهرة، تبرز سيندي تشاو (Cindy Chao) كصوت فني فريد يرسم بخفة الضوء وحركة الهواء في ما يشبه رقصة خيالية في فضاء ثلاثي الأبعاد. أعمالها ليست مجرد زينة، بل قطع نحتية تنبض بالحياة، تستحضر جوهر الطبيعة وتترجمه إلى مجوهرات ذات روح وشخصية. ومن بين أكثر رموزها تميزاً، تظل الريشة، بخفّتها الأثيرية وانحناءاتها الساحرة، تجسيداً عميقاً لفلسفتها الجمالية والفنية.
الخفّة كفلسفة فنية: انسجام بين الروح والطبيعة
تمكنت سيندي تشاو من نقل مفهوم الخفّة إلى بعدٍ جديد، حيث تلتقط اللحظات العابرة وتحبسها في مجوهرات تبدو وكأنها تتحرك وتتنفس. تقول تشاو عن تطورها الفني: "أصبحت الآن خفيفة ذات حركة انسيابية، تماماً كالريشة". بعد أكثر من عقدين من الاستكشاف الإبداعي، وصلت إلى مستوى من النضج الفني يمكّنها من التعبير عن رؤيتها من خلال الانحناءات، الطبقات، الألوان، والضوء والظلال.
في بداياتها، كانت تشاو تسعى إلى إثبات ذاتها عبر التعقيد البصري، حيث كانت تضيف وتكدّس العناصر في كل قطعة لإبراز قدراتها. ولكن مع مرور الوقت، تطورت نظرتها، وبدأت تزيل الزوائد لتصل إلى جوهر العمل الفني، فباتت قطعها تنضح بالثقة والبساطة المركّبة في آن واحد، وتعبّر عن حالة ذهنية ناضجة تنعكس في رقتها وعمقها.
بداية حكاية الريشة: من باريس إلى العالم
بدأت قصة الريشة في أعمال سيندي تشاو عام 2016، عندما تمّت دعوتها للمشاركة في معرض Biennale des Antiquaires في باريس، حيث استوحت المجموعة من فترة Belle �poque، حين كانت الريشات الفريدة زينة أساسية في أزياء النساء الباريسيات. هكذا وُلد بروش Black Label Masterpiece XVI Phoenix Feather، الذي سرعان ما لفت أنظار العالم وحقق نجاحاً باهراً عند بيعه في مزاد "كريستيز" بهونغ كونغ بمبلغ 1.21 مليون دولار أميركي، ليؤكد التقدير العالمي لفن الصياغة عند تشاو.

تحليق متجدّد: احتفاء بمرور 20 عاماً على التأسيس
مع حلول الذكرى العشرين لتأسيس الدار، أعادت سيندي تشاو ابتكار رمز الريشة بأبعاد أكثر جرأة وخفة. في أحدث إبداعاتها، تكشف تشاو عن بروشات ريش تتلوى بزاوية 180درجة، وكأنها تتحرك بفعل نسيم خفي. الريشة هنا لم تعد مجرّد شكل، بل باتت كياناً ينبض بالحياة، يتراقص في الهواء، يعبّر عن التوازن بين الرقّة والقوة.
باستخدام مواد تُعدّ من الأصعب في العالم، مثل التيتانيوم والألماس، نسجت تشاو قصيدة عن الخفّة والبُعد البصري، حيث يبدو كل خيط في الريشة وكأنه يتمايل فعلاً في فضاء من الضوء والظل، مجسدةً رؤية شاعرية ومبتكَرة قلّ نظيرها في عالم المجوهرات.
صياغة المستحيل: حوار بين الشمع والتيتانيوم
تبدأ كل تحفة من تحف سيندي تشاو بمنحوتة شمعية ثلاثية الأبعاد، تصقلها بدقة لا متناهية قبل إرسالها إلى ورشتها الأوروبية، حيث يعمل فريقها من الحِرفيين المخضرمين. وقد عبّر هؤلاء، الذين يرافقونها منذ أكثر من 15 عاماً، عن اندهاشهم من التحديات التي تفرضها تصاميمها المتقنة، خصوصاً عند العمل بالتيتانيوم، المعدن الصلب ضعيف المرونة.
يتطلب تنفيذ هذه الأشكال المعقدة تخطيطاً هندسياً بالغ الدقة، مع احتساب سمك كل جزء بعناية لضمان توازن القطعة وسلامتها الهيكلية. وفي النهاية، تنبض النتيجة بالحياة، وكأن قطعة المجوهرات التقطت رقصة في الهواء، مجمّدة في لحظة أبدية.

إبداع بلا حدود: شهادة حية على التفوق
في وصفه لبروش الريشة، قال أحد الحِرفيين الأوروبيين: "حتى بعد أربعين عاماً من الخبرة، ما زلت أشعر بالتحدي مع كل قطعة من سيندي. هذا البروش من أصعب ما أنجزته معها حتى اليوم". هذه الكلمات تعبّر عن احترام عميق لإصرار تشاو على تجاوز حدود الممكن، وسعيها المتواصل إلى دفع فن المجوهرات نحو آفاق جديدة.
إن دمج التيتانيوم بخفة الريشة، وترصيع الجهتين بالأحجار الكريمة بتناغم بصري فريد، يعكس رؤية تشاو المتعمقة للجمال، ويثبت قدرتها الاستثنائية على تحويل فكرة مجردة إلى عمل فني نابض بالشاعرية.
ريشة تحمل في طياتها الزمن والحلم
ليست مجوهرات سيندي تشاو مجرد زينة تُلبس، بل هي رؤى نحّاتها روحُ فنانة تُجيد الإصغاء للطبيعة والتعبير عنها بلغة الضوء والخط والانسياب. ومن خلال الريشة، هذا الرمز البسيط في ظاهره، تقدّم لنا تشاو قصة عن الخفّة، عن الانطلاق، عن النضج، وعن إدراك الجمال في لحظة عابرة.