الفن والأدب

الأربعاء - 12 ديسمبر 2018 - الساعة 04:21 م بتوقيت اليمن ،،،

المرصد/عصام واصل


يمر عامٌ على رحيل الفنان اليمني الكبير أبو بكر سالم بلفقيه (1939-2017م)، وهو عام مثخن بالحنين والفقد والشجون، ما يزال فيه عشاق بلفقيه في حالة تأهب وانتظار لجديده الذي لم يكن يتوقف طيلة مشواره الفني، لكنهم يؤمنون برائعته «انتهى المشوار كله ما تلامسن الكتوف»، لقد انتهى المشوار ورحل القامة الباسقة فنّاً وشعراً وألقا، ومع ذلك فإن الأشياء العظيمة يصعب تصديق نهاياتها المؤلمة.
لم يكن بلفقيه فناناً عاديّاً عابراً في الذاكرة الغنائية العربية أو في ذاكرة الجزيرة على الأقل؛ لأنه - كما يقول الأديب بدر بن عقيل - «فتحٌ آخر من فتوحات الجزيرة العربية الإبداعية الفنية الحقيقية المعاصرة، التي أعطت الفن قيمة إعجازية مرموقة، ليس لنبل الصوت ومقدرته الخارقة لما يتوافر من مقامات في مساحات صوته من جوابات وقرارات ومرونة هائلة في الترصيع والتطريب والأداء فحسب، وإنما لذائقته المميزة في خياراته الشعرية ذات المدلول الحكمي العميق، والألحان التي تأخذ المشاعر».
فنان مبدع
لم يكن أبو بكر مجرد مؤد لكلمات تكتب له دون معرفة ماهيتها أو دلالاتها البعيدة، لقد كان مثقفا موسوعيّاً، مدركاً لعلوم اللغة، كما كان مدركا لأسرار الشعر، وكذلك لأسرار الموسيقى فهو شاعر، وهو ملحن ومؤدٍّ وعازف، كما أنه كان يتذوق ما يؤديه ويتلذذ به كعاشق، وهو ما يؤكده بن عقيل بقوله «الفنان الكبير الراحل أبو بكر سالم بلفقيه انعكست ثقافته في تجربته الفنية، ثم تميز بعذوبة صوته وتعدد طبقاته بين القرار والجواب، وأيضاً بالقدرة على استنطاق النص وجدانياً بأبعاده المختلفة فرحاً وحزناً».
إنه -كما يقول الأكاديمي سمير عبدالرحمن الشميري في حديث خص به «العربي»- «قامة فنية سامقة يشار إليها بالبنان، طوال مسيرته الفنية، غذى وجداننا الفني بأرق الألحان والأغاني بصوته الفخم وثقافته الفنية. فهو ينتمي إلى فصيلة الفنانين المبدعين وموهبته حاضرة في صوته وألحانه وفي أطراف أصابعه».
بيئة وانعكاس
إن بلفقيه علاوة على ذلك كله ابن بيئة مثقفة روحانيّاً وفكريّاً، فهو ابن تريم العاصمة الروحية لحضرموت، مدينة المآذن والدهشة، ومن تلك المآذن ودهشتها تشكلت ينابيع موهبته التي صقلتها رهافة ذائقته وقدرته الأنيقة على الاختيار أيضاً، فهو كما يؤكد الشميري «قد تشبع في طفولته ومراتع صباه بالفن وغرف من بيئته المحلية (تريم - حضرموت)، روح الفن والشعر، فهو ينتمي إلى أسرة مشهورة بالتبريز في العلم والفقه والشعر والأدب واللغة، وتركت البيئة المحلية بصمتها في التكوين الفني والشعري والجمالي للفنان أبو بكر سالم بلفقيه، ثم صقلت هذه الموهبة الفنية في مدينة عدن، ونضجت وذاع صيتها في السعودية وبلدان الخليج».
وهذا يعني أن أبو بكر قد توافرت له مجموعة من الظروف الاجتماعية والثقافية والروحية، جعلت منه مدرسة متفردة قائمة بذاتها، وهو ما يؤكده بن عقيل بقوله «إن هذه المدرسة الفنية المستقلة في الغناء اليمني والعربي كان لمدينة (تريم) مسقط رأسه أن تضع أساس بنيانها القوي، فهي العاصمة الروحية لحضرموت، ومدينة الإنشاد والغناء الصوفي والدان... إلخ». ويضيف «لقد أخبرني يوماً وفي معرض حديثه عن طفولته بمدينة تريم قائلا: لك أن تتخيل انعكاس صوت وصدى مآذن تريم التي هي بعدد أيام السنة وهي تجهر بأذان الفجر على مشاعري ووجداني..!!. ولاشك أن هذا النبع المتدفق المتجدد ظل مع أبوبكر في حله وترحاله».
تعدد
لقد تعددت مواهب أبو بكر، كما تنوعت مصادرها، فنتج عن ذلك تعدد في صناعته للموسيقى بحرفية فائقة، ومختلفة عن المؤدى في المحيط في الوقت ذاته، ويؤكد بن عقيل أن بلفقيه قد «تميز بقدرته وإجادته على أداء الألوان الغنائية المختلفة. فإلى جانب إجادته للون الغناء الحضرمي، نجده أجاد ألوان الغناء العدني والصنعاني، ثم أجاد أغنيات على إيقاع وألوان خليجية».
ولم يقتصر الأمر على ذلك بل يؤكد الشميري أنه «قد أحب الحياة ومباهجها، ولم يطق رفقاء الكآبة والحزن، فمن ضلوعه خرجت الولادات الفنية والموسيقية والشعرية الباهرة، فغنى للحب والفرح والجمال والحزن والألم النبيل بخفة وذكاء ورشاقة وعذوبة، ووصل إلى ذروة الإبداع الفني بتميزه الذي يصب سحره الفني في شغاف القلوب، فأغانيه مكتملة البنيان نجد فيها جمالاً مسكوباً في الصوت واللحن والكلمة والموسيقى وجودة الأداء الفني الرفيع، تبث فينا الدفء والجمال والحبور وتفتن القلوب».
لقد تميز الراحل بلفقيه في كل شيء على الصعيد الفني، حتى أنه شكَّلَ -كما يقول بن عقيل- «مدرسة كسرت المألوف في الغناء في نواحٍ عدة، ولعل من أبرزها مسرحة الكلمة المغناة نفسها، والقدرة على إيصالها»، لقد أصبح هوية على نوع غنائي وأسلوب أداء ينماز عن غيره، ويكفي أن صوته ما يزال حاضراً بدفئه وشجنه وصوفيته فينا أبداً.