تحليلات سياسية

الأحد - 19 يناير 2020 - الساعة 03:54 م بتوقيت اليمن ،،،

(المرصد)خاص:


روى السفير اليمني الدكتور مصطفى احمد النعمان التفاصيل الكاملة لسقوط محافظة عمران والعاصمة عدن بيد جماعة الحوثي في شهر من مارس من العام 2014 وذلك في مقال مطول تنشر "المرصد" القصة كما جاءت في مقال السفير النعمان:



اتبع الحوثيون سياسة القضم التدريجي، ثم الانتقال إلى مناطق جديدة يسيطرون عليها، وفي نهاية شهر مارس (آذار) 2014 اندلع قتال عنيف بين مسلحي الحوثيين والقبائل التي ساندتهم مع قوات الجيش على مدخل مدينة "عمران"، لكنه سرعان ما هدأ بوساطات قبلية أشبه بالهدنة ومعارك الاستنزاف، وبقي العارفون بالتفاصيل القبلية يحذرون من اقتراب معركة حاسمة للسيطرة على "عمران"، لكن الرئيس هادي لم يتحرك لوأد الفتنة التي كانت تشي بمستقبل دموي على امتداد البلاد، وأخطأ التقدير متوهماً أن الحوثيين لن يتجاوزوها، وكان هو شخصياً غير راغب في الدخول في معركة من أجل اليمن، طالما أنه قدَّر أنها لن تصل بآثارها إليه أولاً.



في وسط مناخ الترقب الذي ساد مرحلة ما قبل اندلاع نيران المعركة النهائية للسيطرة على عمران، تقاطعت مصلحة الرئيسين هادي وصالح، إذ كانا يسعيان في نفس اللحظة من دون اتفاق إلى تحقيق هدف واحد، هو التخلص من آخر معاقل الجيش الموالية لعلي محسن الأحمر شمالي صنعاء، وإنهاك بقايا حزب الإصلاح هناك، وسيبقى السؤال الغامض ومفتاح ما حدث بعد عمران هو هل تعمد الرئيس هادي، مثلما يقول خصومه، عدم التدخل لإنقاذ العميد القشيبي واللواء العسكري الذي يقوده أم أنه كان بالفعل عاجزاً؟، وكما ذكرت في مقالاتي السابقة فإنه في الحالتين يتحمل المسؤوليتين الأخلاقية والوطنية، كما سيبقى السؤال عن دور الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وما ذكره خصومه بأنه طلب من مشايخ القبائل في المنطقة أن يقفوا هم أيضاً على حياد.



إن الإجابة الموثقة عن هذين السؤالين تحتاج إلى تحقيق مع كل من كان في قيادة الجيش في تلك المرحلة، وليس الغرض من ذلك هو إيقاع العقاب على المقصرين، ولكن لجلاء الحقيقة عن موقف كان الموجه لكل ما حدث في البلاد بعدها، وسيظل علامة فارقة في تاريخ البلاد يجب كشف أسرارها، ولقد التقيت عدداً من كبار القيادات العسكرية السابقين الذين كانوا في قلب الأحداث وطرحتُ عليهم السؤالين، وبطبيعة الحال كانت إجاباتهم تصب في سياق الدفاع عن أحد الرئيسين بحسب قربهم من هذا أو ذاك.



المدافعون عن الرئيس هادي يقولون إنه ظل بعد مرور أكثر من عامين على تولي الرئاسة، غير قادر على التحكم في القوات المسلحة، رغم أن وزير الدفاع اللواء محمد ناصر أحمد، كان من أقرب العسكريين الموالين له، ويقولون إن قيادات الجيش العليا والوسطى ظلت موالية للرئيس السابق وتتبع توجيهاته، وأن صالح بقي قادراً على التأثير في مشايخ المناطق الشمالية، وقد يكون هذا صحيحاً إلا أنه يبرهن مجدداً على أن الرئيس هادي كان بالفعل عاجزاً عن أداء مهامه، وعوضاً عن بذل الجهد للسيطرة على مفاصل الجيش قام بتشتيت الوحدات على طول البلاد وعرضها تحت مسمى (إعادة الهيكلة)، وكان يحاول في كل تحركاته محاكاة ما كان يصنعه الرئيس صالح مع فارق أن الأخير كان قادراً على الإمساك والتحكم بكل خيوط الحكم وتحريكها في الاتجاهات التي تساعده على الاستمرار فيه.



ومع اقتراب ميليشيات الحوثيين من العاصمة كان مؤيدو الرئيس صالح يطلقون تصريحات بأنه طلب من بعضهم تحذير خلفه الرئيس هادي بعدم السماح للحوثيين بتجاوزها، ويزعمون أنهم نقلوا الرسالة إليه وأن هادي كان غير مقتنع بالتحذيرات وأشعرهم بالاطمئنان تجاه تحركات الميليشيات في اتجاه العاصمة والمدى الذي يمكن أن يصلوا إليه.



بعد سقوط عمران كتبت مقالاً في صحيفة "الشرق الأوسط" بتاريخ 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2014 بعنوان "أنصار الله بين حديث الخيانة والسياق الطبيعي"، وقلت فيه "إن طبيعة الأوضاع السياسية التي مرت بها البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية، كبلت الرئيس هادي، وهو أيضاً لم يستفد من الفرصة التاريخية التي لم تمنحها الأقدار لحاكم قبله فتباطأ في اتخاذ القرارات التي كان لها أن تثبت حكمه، وأهمها على الإطلاق حسم مسألة ولاء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وهو وإن كان قد تمكن من تغيير القيادات فيها، إلا أنه أخفق في الوصول إلى عمقها، كما أن هادي وقع رهينة في يد الذين رأوا الحكم مغنماً يريدون الانفراد بأكبر حصة فيه، وكان قلقه من الرئيس السابق وتوجسه من تحركاته معيناً لهم، كما أن إصراره على المضي قدماً في إدارة البلاد بنفس الأساليب العتيقة وعزلته عن محيطه أبعداه عن المشهد الحقيقي وتمكن من خلالهما المنافقون أن يزينوا كل سوء ويدافعوا عن كل خطأ".



كان تقدم أنصار الله من خلال هذه الثقوب يسير في سياقه الطبيعي، فلا جيش بعقيدة وولاء وطنيين، ولا إدارة للمؤسسات العامة بنزاهة وحيدة، ولا قوى سياسية قادرة على الارتفاع فوق جشعها، ولا رؤية واحدة للوطن، وكم كان لافتاً أن الرئيس هادي خرج من صنعاء فجر يوم 23 يوليو (تموز) 2014 (26 رمضان) لزيارة محافظة عمران بعد مقتل العميد القشيبي واستيلاء الحوثيين على المعسكر والمدينة، وفوجئ اليمنيون بخطابه الذي أثار جدلاً حول حقيقة أهداف الزيارة، إذ أطلق جملته الشهيرة "عادت عمران إلى حضن الدولة"، وكان تصريحاً متناقضاً مع الواقع الذي صارت عليه المدينة بعد أن سيطر عليها مسلحو أنصار الله، وليس سراً أن الزيارة تمت بموافقة قيادتهم وبتنسيق كامل بينهم وبين الرئاسة، فانسحبوا من النقاط التي كانوا قد أنشأوها على مداخل المدينة وسمحوا له بدخولها والبقاء فيها لالتقاط الصور ثم مغادرتها.



زيارة الرئيس هادي لعمران فسرها أنصاره بأنها جاءت لطمأنة السفراء الغربيين الذين أبدوا مخاوفهم من سيطرة ميليشيات على مدينة غير بعيدة عن العاصمة، ورغم وجاهة التبرير فإنه يسقط مجدداً أمام مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، بعد أن تخلت عن لواء كامل من جيشها وصمتت عن مقتل قائده، وتجاهلت هذا الأمر كما لو كان حدثاً عابراً.



وكان الضغط لتغيير العميد القشيبي والشيخ دماج وسيلة استخدمها الحوثيون لإظهار أن تحركاتهم لا تحمل إلا مطالبات سياسية واجتماعية، وكان الرئيس متمسكاً بشعار "الجيش يقف على الحياد" منطلقاً، معتبراً ما يدور في شمالي العاصمة معارك قبلية بين مؤيدي الإصلاح وخصومهم وأن الدولة ليست معنية بها، باعتقاد أنها ستضعف فقط خصومه ولن تؤثر على استقرار حكمه واستمراره.



ولم تجدِ النداءات بضرورة مواجهة مسلحي أنصار الله قبل دخول عمران، واستمر (حياد الجيش) وكذا المواجهات بصورة متقطعة مخلفة مئات القتلى من الجانبين، وكان سقوط المدينة تعبيراً فاضحاً عن العجز والتخلي عن آخر معقل للجيش النظامي شمالي صنعاء، وكان يفصح بجلاء عن انهيار قادم لآخر مؤسسات الدولة القادرة على وقف التصدي للميليشيات الشابة القادمة من شمالي البلاد متوجهة نحو العاصمة.



لم تمضِ أسابيع حتى أتمّ انصار الله (الحوثيون) سيطرتهم على المنطقة الجغرافية الممتدة من شمال اليمن في صعدة الى جنوب عمران قرب صنعاء، ونظر كثيرون الى الاحداث كما لو كانت تواصلاً لانتصار مسيرة التغيير التي بدأت بمطالب الشباب مطلع فبراير (شباط) 2011 لأنهم، حينها، لم يدركوا فداحة الحالة الاستثنائية التي صنع الحوثيون معالمها امام نظر الجميع مستعينين بالقوة وسيلة وحيدة لتنفيذ مخططهم النهائي، فبسطوا سيطرتهم على مجمل الجغرافيا الشمالية، اقصد شمال اليمن، بسرعة مذهلة، ولا يمكن ان يكون ذلك قد حدث من دون تعاون وتواطؤ من الرئيسين السابق والحالي، وان كان لكل منهما هدف مختلف حد التناقض.



كان حزب الإصلاح ومعه الجماعات السلفية هدفاً رئيسياً للحملة العسكرية التي قادتها ميليشيات أنصار الله للقضاء على تواجده الفكري ونفوذه السياسي في المناطق التي كان قد تمكن في الماضي من السيطرة عليها بتغاضي الدولة عن نشاطاته، ودعم إنشاء عدد من المعاهد التي تدرّس الفقه السني، والأفكار السلفية، وبمساعدة عدد من كبار المشايخ، وعلى رأسهم الشيح الراحل عبد الله بن حسين الأحمر، وكانت هذه المؤسسات تحصل على مساعدات خارجية من منظمات خليجية شبيهة وقريبة من دوائر الحكم في عواصمها.



لم يتمكن أحد من تخفيف التوتر بين الرئيسين هادي وصالح الذي بقي متصدراً المشهد العام، ولم يتمكن الأول من الاستفادة من رغبة معظم اليمنيين في طي صفة صالح وفي الوقت نفسه، تشبث بكل رجالات العهد السابق وأوصد ابوابه على القوى التي كانت تظن فيه صورة المنقذ والمخلص.





وكانت مساحات الكراهية والنفور تتزايد بينهما ويغذيها خصوم الاثنين، وكان الخطأ الذي وقع فيه هادي هو انه لم يكن في حالة نفسية تساعده على الارتفاع الى مستوى القيادة وموقع الرئاسة، فخلط بين محاولة الابتعاد عن ظل صالح وفي الوقت نفسه عدم الوقوع كاملاً في ظل دائرة علي محسن الأحمر.



لم يدرك الرئيس هادي، وربما كان عاجزاً، أن اقتراب ميليشيا الحوثيين من صنعاء بعد اقتحام عمران واغتيال العميد القشيبي والاستيلاء على اللواء 310 الحصن الأخير للدولة في عمران، ثم إعلانه ان عمران (عادت الى حضن الدولة)، كانت كلها تشكل مؤشرات مسار احداث مدمرة لكيان الدولة ستعصف بها، كما عبرت عن جهل هادي ودائرته الضيقة بالتركيبة القبيلة والاجتماعية في المناطق الشمالية، وفي خضم كل هذا، كانت الحكومة غائبة عن كل الاحداث، لان القرار بكل تفاصيله تركز في يد الرئيس ومدير مكتبه احمد بن مبارك والمبعوث الاممي جمال بنعمر الذي اصبح يمارس سلطة خارجة عن صلاحياته الممنوحة له من مجلس الامن، ولم يكن ذلك برغبة منه فقط، ولكن لأن الرئيس صار يلجأ اليه كعصا يرفعها ضد كل معارضيه ومنتقديه.



وواصلت ميليشيات (انصار الله) تحركها نحو العاصمة لكنها لم تقتحمها، بل مارست سياسة غير مسبوقة في اليمن، واستغلت غضباً شعبياً على امتداد البلاد بعد ان اتخذت الحكومة قراراً حكومياً أواخر شهر أغسطس (آب) 2014 برفع الدعم عن المشتقات النفطية، فقامت بإنشاء مخيمات في مدخل العاصمة الشمالي قرب وزارة الداخلية، وهو طريق حيوي يربط المدينة بمطارها وقريب من منزل الشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر، وحينها صرح المتحدث باسم الجماعة محمد عبد السلام انهم خرجوا الى جانب الشعب، في ما وصفه بـ (ثورته الشعبية المباركة) للمطالبة بحقوق (مشروعة وعادلة)، وطالبت الجماعة في بياناتها باستقالة الحكومة وإعادة الدعم الحكومي للمشتقات النفطية.



كان واضحاً ان الحوثيين انتقلوا من مربع الحديث عن المظلومية الى رفع شعارات براقة مستغلين معاناة المواطنين المعيشية وفشل الحكومة التي صار من الواضح ان الرئيس الراحل علي عبد الله يريد استغلال كل هذه الظروف لإسقاطها، وضاعف من الفوضى السياسية والامنية التي سادت تلك المرحلة، أن الرئيس هادي نفسه كان قد توصل الى قناعة بضرورة استبعاد محمد سالم باسندوة من رئاسة الحكومة وتكليف احمد بن مبارك بديلاً عنه، وعلى الرغم من ان ذلك يناقض بنود المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، إلا أن الأحزاب جميعها ومن ضمنها تلك التي رشحت باسندوة لرئاسة الحكومة أبدت الاستعداد للتخلي عنه، ومنحت الرئيس موافقتها على اقالته.



هكذا ظلت الأمور تسير في مسار شديد الانحدار من دون كوابح، ولم يعد للقوى السياسية أي دور في تحديد اتجاهاته، ولم يعد للحكومة أي دور يذكر في العملية السياسية، وتركزت كل السلطة والتأثير على الرئيس في يد مدير مكتبه احمد بن مبارك الذي كان واضحاً ان هادي لم يعد يثق الا به، وكانا معاً غير قادرين على فهم حقيقة ما يدور وتأثيراته على ارض الواقع، ودخلت البلد في حالة من الشلل، وبدأت وساطات لنزع فتيل الازمة وجرت مفاوضات كان الراحلان عبد الكريم الارياني وعبد القادر هلال ابرز من يقودها مع ممثلين عن الحوثيين، وتوصلوا بعد عناء الى ما عُرف بوثيقة (السلم والشراكة الوطنية)، وماطل الحوثيون في التوقيع عليها حتى استكملوا سيطرتهم على اهم المقار الحكومية واجبروا اللواء علي محسن الأحمر على الفرار الى خارج اليمن.



في يوم التوقيع نفسه على الوثيقة، حضر صباحاً الى دار الرئاسة قادة الأحزاب لينتظروا وصول ممثلي الحوثيين، وفي الوقت نفسه، كانت المعارك تدور داخل العاصمة للاستيلاء على كل المؤسسات الرسمية ومعسكرات الجيش ووضعها بعيداً عن سيطرة الدولة، ولم يكن لاي من الأحزاب أي قدرة على الرفض لان بنود (السلم والشراكة) كانت مفروضة من طرف تمكّن من انتزاعها بالقوة، واستبق باسندوة اقالته، وتوجه باستقالته الى الشعب مباشرة بعد ان أيقن انه سيكون إحدى ضحايا الاتفاق.



واستكملت ميليشيات الحوثيين تصفية كل المواقع التي سيطرت عليها، وبعدها وصل الى دار الرئاسة ممثل (أنصار الله) حسين العزي عضو المكتب السياسي للجماعة، ودخل الى القاعة مع الرئيس هادي وجمال بن عمر حيث كانت القيادات الحزبية في انتظاره، ووقع الجميع صاغرين ولم يتحفظ الا الأستاذ عبد الله نعمان القدسي الأمين العام للحزب الناصري بعد ان أصر على توقيع الملحق الأمني الذي لم يوقع الحوثيون عليه، وأصدر مجلس الامن بياناً يرحب فيه بالاتفاق.



كان مشهد التوقيع على الاتفاق كفيلاً بأن يعلم الجميع بأنه كان إقراراً بتهاوي المؤسسات وانتهاء دورها، وبدء مرحلة شاركت القيادات السياسية كلها في صياغة المسارات التي تلتها.