آخر تحديث :الثلاثاء-26 أغسطس 2025-03:44م

مقالات


قراءة قانونية في بناء دعوى "جريمة الإعاشة"؛ من جمع الاستدلالات إلى المسؤولية الجنائية والشعبية:

قراءة قانونية في بناء دعوى "جريمة الإعاشة"؛ من جمع الاستدلالات إلى المسؤولية الجنائية والشعبية:

الثلاثاء - 26 أغسطس 2025 - 11:43 ص بتوقيت عدن

- كتبه: أسامة عمر علي


حيث إن مواجهة هذه الجريمة المنظمة تطلب تجاوز حالة التنديد إلى بناء استراتيجية قانونية دقيقة؛ تبدأ من أبسط الإجراءات وتتصاعد لتضع كل سلطة في الدولة أمام مسؤوليتها الدستورية والقانونية؛
سيما وأن الدستور في نص المادة (19) ينص على أن:
"للأموال والممتلكات العامة حرمة وعلى الدولة وجميع أفراد المجتمع صيانتها وحمايتها وكل عبث بها أوعدوان عليها يعتبر تخريبا وعدوانا على المجتمع، ويعاقب كل من ينتهك حرمتها وفقـاً للقانـون".

- في البدء يتوجب أن نفهم أن هنالك الكثير ضمن كشوفات الإعاشة من غير شاغلي وظائف السلطة العليا من درجة وكيل وزارة وأدنى؛ وهؤلاء يتم التعامل معهم وفق إجراءات جمع الاستدلالات والتحقيق العادية؛ بل ويمكن استغلال عملية التحقيق في الحصول على إثباتات أكثر لإدانة شاغلي وظائف السلطة العليا؛ نظرًا لكونهم هم الفاعلين والشركاء الأساسيين ولحساسية الإجراءات في مواجهتهم كونهم تحت حماية قانون رقم (6) لسنة 1995م؛ بشأن إجراءات اتهام ومحاكمة شاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا في الدولة..؛ والذي عليه نوضح آلية التعامل معهم..

∆ المرحلة الأولى/ تفعيل سلطة النيابة العامة في جمع الاستدلالات:
فكثيرًا ما يتم التذرع بحصانة شاغلي الوظائف العليا كعائق يمنع القضاء من التحرك، وهي حجة منقوصة تخلط عمدًا بين "التحقيق الابتدائي" و"جمع الاستدلالات"؛ فبينما يتطلب الأول إذناً برفع الحصانة، فإن الثاني هو واجب أصيل ومباشر للنيابة العامة ولا يحتاج إلى أي إذن مسبق.
و بموجب المادة (84) من قانون الإجراءات الجزائية، يُعتبر "أعضاء النيابة العامة" على رأس قائمة مأموري الضبط القضائي، مما يمنحهم سلطة أصلية وأساسية في استقصاء الجرائم وجمع المعلومات؛ استناداً إلى نص المادة (٩١) إجراءات جزائية.
عليه، يجب على النيابة العامة، بناءً على بلاغ رسمي أو حتى من تلقاء نفسها، أن تبادر فورًا:
١- بفتح ملف قضائي مؤرخ ومرقوم،
٢- إصدار أوامرها للبنك المركزي ووزارة المالية وكل من له علاقة بضبط كافة المستندات المتعلقة بالصرف،
٣- سماع أقوال الموظفين التنفيذيين غير المحصنين.
٤- أي إجراءات أخرى، في هذا الإطار الاستدلالي، بما فيها توجيه طلبات رسمية لأي مسؤول، مهما علت صفته، ولو من ذوي الحصانه لتزويدها بالمستندات اللازمة المتعلقة للصرف؛ حيث إن الامتناع عن تقديم هذه المستندات وغيرها من المعلومات قد يرتب جريمة مستقلة متعلقة "بعرقلة سير العمل" التي يجرمها القانون استنادًا إلى المادة (165) من قانون الجرائم والعقوبات، والمادة (127) من قانون الإجراءات الجزائية.

∆ المرحلة الثانية/ مخاطبة السلطة السياسية ووضعها أمام مسؤوليتها:
فبعد استكمال ملف الاستدلالات وبناء قضية لها دلالاتها، تنتقل النيابة العامة إلى مرحلة المواجهة السياسية والقانونية، عبر مخاطبة رئاسة الجمهورية ومجلس النواب بطلب رسمي لرفع الحصانة عن المشتبه بهم ومناقشة موضوع الاتهام لإقراره،، وفقًا للآليات المنصوص عليها في قانون إجراءات اتهام ومحاكمة شاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا.
ففي حالة اتهام رئيس الوزراء أو نوابه أو الوزراء ونوابهم، حصر القانون حق تحريك الاتهام في جهتين فقط: إما بقرار مباشر من رئيس الجمهورية، أو عبر مجلس النواب.
والجدير بالذكر أن القانون سهّل على النواب بدء الإجراءات، حيث يكفي، وفقًا للمادة (6) من القانون، تقديم طلب من خمسة أعضاء فقط لإلزام هيئة رئاسة المجلس بعرض موضوع الإحالة للتحقيق على المجلس بشكل عاجل؛ بعد ذلك، ولكي يتم إقرار الإحالة فعليًا، يتطلب الأمر موافقة أغلبية ثلثي أعضاء المجلس، استنادًا إلى المادة (10) من القانون؛ وبمجرد صدور هذا القرار، يُعتبر المسؤول موقوفًا عن عمله فورًا حتى يتم الفصل في قضيتها.

وتكون الإجراءات أكثر تعقيدًا في حالة اتهام رئيس الجمهورية أو نائبه، حيث تتطلب أغلبية برلمانية عالية جدًا؛ إذ يجب أن يبدأ الأمر بطلب يقدمه نصف أعضاء مجلس النواب، ثم لا يصدر قرار الاتهام إلا بموافقة أغلبية الثلثين، وفور صدور هذا القرار، يُوقف رئيس الجمهورية عن ممارسة مهامه، كما توضح المادتان (5) و (12) من القانون.
وبمجرد أن تتخذ السلطة السياسية قرارها بالموافقة على الاتهام، لا تعود القضية إلى القضاء العادي، بل تدخل مسارًا قضائيًا استثنائيًا ومحددًا، يمكن إيجازه في النقاط التالية:
* تتولى المحكمة العليا (الدائرة الدستورية) مهمة محاكمة شاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا، وهي أعلى هيئة قضائية في البلاد. (المادة 19)
* لا تقوم النيابة العامة بدور الادعاء المباشر؛ بل ينتخب بالاقتراع السري مجلس النواب من بين أعضائه ثلاثة نواب (مختصين) ليتولوا هم وظيفة الاتهام أمام المحكمة، ويجوز لهم طلب مساعدة من النيابة العامة. (المادة 21)
* تتمتع المحكمة العليا بكافة سلطات التحقيق، وتكون جلساتها علنية كأصل عام، كما يتمتع المتهم بكافة ضمانات الدفاع، بما في ذلك الحق في الاستعانة بمحامٍ. (المواد 22، 23، 24، 26)
* لا تقتصر المحاكمة على المسؤول صاحب الحصانة فقط، بل تختص المحكمة بمحاكمة كل من شارك معه في الجريمة كفاعل أصلي أو شريك، حتى لو لم يكن من شاغلي الوظائف العليا. (المادة 27)
* الأحكام الصادرة من المحكمة العليا في هذه القضايا تكون نهائية وغير قابلة للطعن بأي طريقة (مثل الاستئناف أو النقض)؛ مما يجعل قرارها باتًا ونافذًا. (المادة 20)

∆ المرحلة الثالثة/ التصعيد القضائي في مواجهة الشلل السياسي:
في حال تواطؤ السلطة السياسية ورفضها التجاوب، لا يجب أن يقف مسار العدالة؛ بل يتوجب على القضاء اللجوء إلى تفسير صحيح للقانون يرتكز على غايات المشرع -النزيه والوطني- وإلى مبادئ العدالة العليا التي كرسها الدستور.

هنا، في حال وجود موقف سلبي نصل إلى الآتي:
أولًا- خلق مسؤولية جنائية متزامنة مع الامتناع أو عند استنفاذ أي إجراءات لاحقة:

1. الاتهام بجريمة عرقلة سير العمل بشكل عام بالامتناع العمدي عن التنفيذ:
حيث إن امتناع مجلس النواب عن مجرد الاجتماع وإدراج طلب النيابة العامة على جدول أعماله ومناقشته بجدية؛ لا يعتبر ممارسة لحق سيادي والذي هو بدوره أيضًا يكون محكوماً باعتبارات كثيرة؛ بل هو "قرار سلبي" بالامتناع عن القيام بعمل اجرائي واجب عليهم كموظفين لدى الشعب؛ بحيث يهدف الامتناع بشكل واضح إلى حماية متهمين وعرقلة مسار العمل.
حيث نجد:
المادة (1) من قانون الجرائم والعقوبات: تعرف "الموظف العام" بأنه يشمل "أعضاء المجالس النيابية العامة".
المادة (165) فقرة (1) من قانون الجرائم والعقوبات: هي النص الحاكم لهذا الفعل؛ حيث تجرم امتناع الموظف العام (النائب مثلاً) عن أداء واجب يدخل في اختصاصه (مناقشة طلب النيابة).

2. الاتهام بجريمة تسهيل الاستيلاء على المال العام:
فعندما تُعرض على المجلس أو رئيس الجمهورية أدلة قاطعة على استمرار جريمة نهب المال العام بالاستيلاء عليه والعبث فيه، ويختار تجاهلها، فإنهم بذلك يتحولون من سلطة اتهام ورقابه إلى شريك بالامتناع؛ على نحو يسهل للجناة الاستمرار في جريمتهم، وفق لقواعد الشراكة في قانون الجرائم والعقوبات.
حيث إن:
المادة (23): تعرف "الشريك" بأنه من يقدم للفاعل مساعدة تبعية. ما يمكن عليه تكييف الامتناع عن أداء واجب رقابي يهدف لوقف الجريمة كشكل من أشكال المساعدة السلبية.

بالإضافة للمادة (162) فقرة (2) التي: تعاقب الموظف العام الذي "سهل ذلك لغيره" (أي سهل الاستيلاء على المال العام)؛ كما هو الحال عند الامتناع عن وقف الجريمة والذي يمكن تفسيره كتسهيل لاستمرارها.

•• تفعيل نظرية "التلبس الحكمي" بالنسبة لأعضاء مجلس النواب:
بحيث يمكن للنيابة العامة استناداً إلى امتناع البرلمان عن الاجتماع أو عن مناقشة الاتهام والبراهين الدامغة عليه، مع شبهه وجود مصلحة مباشرة لأعضائه، واتخاذ موقف سلبي أو تعطيلي، نجد أن ذلك يخلق حالة "تلبس حكمي" بعرقلة سير العمل وعرقلة سير العدالة بل والاشتراك بالجريمة عن طريق تسهيلها والتستر عليها؛ فالتلبس ليس فقط بالمشاهدة المادية، بل بتحقق اليقين القاطع بوقوع الجريمة واستمرارها.
واليقين هنا متحقق عبر ملف النيابة الرسمي، وموقف الامتناع المتعمد عن النظر أو اتخاذ قرار باطل رغم كل ما تم تقديمه من براهين؛ وبالتالي لا حصانه هنا في القبض والتحقيق والاتهام مع أعضاء مجلس النواب وفق المادة (٨٢) من الدستور.

ثانيًا: إجراءات سابقة أو متزامنة:
1. رفع دعوى إلغاء قرار الرئيس/ أو المجلس بالامتناع عن عقد اجتماعات المجلس؛ لمناقشة البلاغ وتقرير وضع الاتهام بالنسبة للمجلس أو رئيس الجمهورية:
حيث يمكن رفع دعوى أمام المحكمة المختصة ليس لإجبار الرئيس أو المجلس على الاختيار بنعم أو لا، بل لإلزامه بممارسة واجبه الإجرائي المتمثل في الاجتماع ومناقشة الطلب حسب الأحوال،
وأي رفض من المحكمة لنظر هذه الدعوى بحجة نظرية "أعمال السيادة" هو تخلٍ من القضاء عن دوره في حماية الدستور؛ الذي ينص على إعمال مبدأ العدالة، ومبدأ العدالة يفترض الابتعاد عن هذه النظرية طالما توجد نظريات أخرى أقرب للعدالة وأكثر حداثه، حيث لا يوجد ما يلزم باتباع نظرية معينه؛ إلا إذا كان للمحكمة نهج سياسي غير قانوني في التعامل مع هذه الأمور كما كان ذلك في سنوات سابقة (قبل الحرب).
وهنا نؤكد على النصوص الدستورية:
المادة (51) من الدستور: "يحق للمواطن أن يلجأ إلى القضاء لحماية حقوقه ومصالحه المشروعة...".
المادة (149) من الدستور: "القضاء سلطة مستقلة... وتتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم...".
وهذه النصوص تشكل أساسًا للمطالبة بتوسيع ولاية القضاء لمنع تعطيل العدالة.

*هنا بعد الحكم بالإلغاء للقرار الصادر عن مجلس النواب أو الرئيس بعدم توجيه الاتهام، يتم استصدار أمر من المحكمة بالمضي بإجراءات النظر والمناقشة واتخاذ القرار وإلا كانوا أيضاً بصدد جريمة عرقلة جديدة؛ حيث إن رقابة القضاء هي رقابة مبنية على أدلة وبراهين لا مجرد أراء كما هو الحال مع مجلس النواب أو الرئيس .

* وحتى لو اصطدمت كل المسارات القضائية بجدار العجز أو التواطؤ، فإن مجرد نجاح النيابة العامة في استكمال المرحلة الأولى (جمع الاستدلالات) هو بحد ذاته انتصار كبير للعدالة؛ إذ إن بناء ملف قضائي رسمي، مدعوم بالمستندات، وأوامر الصرف، وشهادات الموظفين، ثم نشره بشفافية للرأي العام، سيحقق هدفًا لا يقل أهمية عن الإدانة القضائية؛ وهو "الإدانة الشعبية" المبنية على الحقيقة الموثقة؛
هذا الكشف سيوضح للشعب بالملموس، بالأرقام والأسماء والوثائق، من هم المتورطون الحقيقيون في نهب مقدراته، وسينزع عنهم أي غطاء أخلاقي أو سياسي، ويجعلهم مجرمين في نظر المجتمع، حتى وإن أفلتوا مؤقتًا من قبضة القضاء.

∆ المرحلة الرابعة: حكم الشعب "النتيجة الحتمية"
في حال فشل السلطة التشريعية في مراقبة التنفيذية، وكذا فشل السلطة القضائية في مساءلة التشريعية والتنفيذية؛ فإننا نصل إلى حالة "انهيار كامل لعقد الدولة الاجتماعي".

وعندما تتواطأ كل سلطات الدولة (التشريعية، التنفيذية، القضائية) لحماية منظومة فساد تنهب مقدرات الشعب، أو تعجز عن ذلك؛ فإنها بذلك تفقد شرعيتها مجتمعة:
وفي هذه الحالة القصوى، التي نأمل ألا نصل إليها، فإن مبادئ القانون الطبيعي وفلسفة الثورات تؤكد أن الشعب، مصدر كل السلطات وفق المادة (٤) من الدستور، وله أن يسترد سلطته الأصلية.

ومنها فإن أي جهة وطنية تتقدم في هذه الظروف لانتزاع السلطة من هذه السلطات المتواطئة أو العاجزة، لن يُنظر إليها دوليًا أو شعبيًا على أنها "انقلاب"، بل كـ "حركة تصحيحية ضرورية" لإنقاذ الدولة من الانهيار التام، وإعادة بنائها على أسس من العدالة والنزاهة.

إن الكرة الآن في ملعب مؤسسات الدولة، فإما أن تقوم بواجبها وتنقذ ما تبقى من هيبتها، أو أن تترك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام كل الاحتمالات .