آخر تحديث :الأحد-09 نوفمبر 2025-11:31م

منوعات


«سبدلا»… الرواية التي تصوّر الصراع الداخلي للوعي المقهور

«سبدلا»… الرواية التي تصوّر الصراع الداخلي للوعي المقهور

الأحد - 09 نوفمبر 2025 - 11:31 م بتوقيت عدن

- المرصد خاص

تأتي رواية سبدلا للروائي السوري عبد القادر الجاسم، بعد روايته «الهيلعي»، لتعمّق اشتغاله السردي على الواقع السوري، بوصفه حقلا للتجربة الإنسانية قبل أن يكون حقلا سياسيا أو تاريخيا. ينتمي الجاسم إلى الجيل الذي حمل على عاتقه مهمة توثيق الألم السوري، دون أن يتورّط في الخطاب التقريري، إذ يوازن في نصّه بين السرد الواقعي والتأمل الوجودي، ليقدّم نموذجا لما يمكن تسميته بالرواية الواقعية التأملية؛ رواية تكتب التاريخ من زاوية الذات الممزقة بين ممكنات الواقع وتناقضاته.
الدلالة التأويلية للعنوان:
يشكّل العنوان «سبدلّا» عتبة نصية مشحونة بالدلالة والغموض، فهو لا يحيل مباشرة إلى معنى معجمي واضح، بل ينهض على الالتباس الدلالي المقصود، الذي يدعو القارئ إلى تأويله. فعلى المستوى الشكلي، يبدو العنوان كلمة غير مألوفة في العربية، تحمل تونا غربيا ليس عربيّا، وإيقاعا متقطعاً يشبه أنفاس الحرب، كأنها نُحتت من الألم، أو وُلدت من فوضى اللغة ذاتها. هذا الغموض يحوّل العنوان إلى علامة سيميائية مفتوحة؛ فسبدّلا ليس مجرد لفظ غريب، بل فضاء تأويلي يختصر مأساة الرواية كلها: الخوف، التبدّل، والانقلاب، واللايقين، ولكنّه من جهة أخرى يحيل إلى خرافة شعبية تتعلّق بالانضباط المجتمعي، والخوف الذي يمارسه المجتمع السوري عموما، والحلبي خاصة في أسلوب التربية القائمة على التخويف؛ هذا التخويف يصبح الثيمة الخفية في الفضاء الروائي، الذي يظهر فيه سبدلا على لحظات سرديّة وحوارية متباعدة، إلى أن يكشف «مخلص» بطل الرواية، النقاب عنه ذات سرد. إن اختيار الجاسم لهذا العنوان ينسجم مع مشروعه السردي في استعمال اللغة المألوفة التي تستخدم الشعبي، وتحتفي بالمثل والخبرة المجتمعية المتعلّقة بالتراث والحرب الراهنة، وإعادة البناء على أنقاضها.
تبدأ أحداث الرواية في حيّ الأنصاري في حلب سنة 2013، أي في ذروة الانقسام المكاني بين حلب الشرقية الخاضعة للثوار، والغربية التابعة للنظام. بهذا التقطيع الجغرافي، تتحوّل المدينة إلى كرونوتوب (وفق مصطلح باختين) تتداخل فيه الأزمنة بالأمكنة، وتتقاطع الأصوات والوعي الجمعي في بنية روائية واحدة. فالمكان ليس مسرحا للأحداث فحسب، بل هو فاعل سرديّ يعيد تشكيل الشخصيات ووجهات نظرها.
أبو محمود؛ المقموع الذي يدافع عن سجانه:
يشكّل النمط الشخصي لأبي محمود محور الرواية ومركزها الرمزي، فهو نموذج المواطن البسيط، مستلب الوعي السياسي وفاقد معنى المواطنة، إذ ينقلب إلى أداة بيد النظام الذي سحقه. يعمل آذنا في مدرسة، وله ابن يخدم في الجيش وآخر في مقتبل العمر، وابنة جامعية. ومع أنّه فقد ابنه الأصغر برصاص قنّاص تابع للنظام على معبر بستان القصر – أثناء سعيه لتسليمه ليساق إلى الخدمة الإلزامية – إلا أنّه بقي على إيمانه المطلق ببراءة السلطة وشرعية قمعها، متّهما الثوار بقتل ابنه. هذه المفارقة المأساوية تكشف ما يسميه بيير بورديو العنف الرمزي، أي انخداع الضحية بخطاب السلطة حتى وهي تفنيه. لا يظهر أبو محمود في الرواية مجرّد شخصية فردية، بل يبدو تجسيدا للوعي المقهور، الذي تشكّل على مدى عقود من الاستبداد. وهو بذلك يمثّل وجها آخر للمأساة السورية: المواطن المسحوق الذي يقاتل من أجل جلاده، ويبرّر الظلم باسم الأمان والاستقرار ولقمة العيش، ومن خلاله يقدّم الجاسم نقدا اجتماعيا عميقا لثقافة الخضوع التي أنتجها النظام.
محمود ومخلص الصراع الداخلي وتمزّق الهوية:
يتمثل الصراع الآخر في شخصية الابن «محمود»، الجندي في صفوف النظام، الذي يقرر الفرار، بعد انكشاف الطابع غير المفهوم بالنسبة له للحرب التي تدور في سوريا. رحلته من دمشق إلى الرقة، وموته في حفرة «الهوتة» على يد تنظيم «داعش»، تختصر المسار التراجيدي للإنسان السوري، الذي هرب من جلاد ليقع في براثن جلاد آخر. الموت هنا ليس نهاية سردية فحسب، بل هاوية رمزية تبتلع المعنى والهوية. أما «مخلص»، المعلم الثائر في حيّ الأنصاري، فيجسد الوجه النقيض: المثقف الملتزم، الذي يصرّ على حمل كاميرته وسط الدمار ليصوّر الحقيقة. لكنّ الثورة لم تمنحه الخلاص؛ إذ خسر حبيبته التي انحازت لخطاب النظام، كما خسر حبيبته السابقة العلوية، التي رأَت في الثورة خطرا على طائفتها. عبر هاتين التجربتين العاطفيتين، يكشف النص عن تفكك النسيج العاطفي والاجتماعي في سوريا، حيث تتغلغل السياسة في القلب وتحوّل الحبّ إلى ساحة مواجهة أيديولوجية.
الصوت الروائي وصوت المخاطب:
على الرغم من وضوح البنية السردية التقليدية في الفضاء الروائي عموما، إلا أنّ الكاتب حرص على تغيير ضمير السارد في الرواية، من الغائب إلى المتكلّم إلى المخاطب، وهو اختيار سرديّ جريء في الرواية السورية، لأنّه يكسر المسافة المألوفة بين الراوي والمتلقي، ولعل من شأن هذه الصيغة أن تجعل القارئ شريكا في التجربة، فأحيانا ما يبدو تقليديا، لكن السرد يقوم أيضا على نبرة اعترافية، أو استبطانية، تلج بنا داخل الوعي المأزوم للشخصيات، كما يظهر أحيانا حوار داخليّ بين الذات السورية ومرآتها المكسورة، ولكن في الحالات جميعها يأتي السرد منسجما مع حالة الخراب النفسي، التي يعيشها المجتمع وأبطال الرواية.
تعدد الأصوات والرؤية الحوارية:
تتأسس الرواية على بنية بوليفونية (متعددة الأصوات)؛ فلا صوت يهيمن على النص، بل تتحاور الأصوات في حوار مأزوم، يكشف تداخل المواقف والرؤى. نسمع صوت أبو محمود الموالي، ومخلص الثائر، وصديقه سمير الطبيب الذي تحوّل إلى الإلحاد بسبب أسلمة الثورة، وابنة أبي محمود (ضحى) وهي حبيبة مخلص في الوقت نفسه، التي دفعها والدها للانتساب إلى كتائب البعث، ونسرين الفتاة العلويّة التي اختارت خوفها على حبيبها؛ والسائق أبو الليل الذي ينتمي لمصلحته؛ هذه الأصوات لا تنفي بعضها، بل تتفاعل في فضاء من الحوار الداخلي المفتوح الذي يعبّر عن الانقسام الوجداني داخل الوطن الواحد. وبهذا لا تظهر «سبدلا» رواية عن الحرب فقط، بل عن اللغة المأزومة التي تعبّر بها الشخصيات عن نفسها، وعن الوعي المتشظي، الذي لا يملك سوى الحكاية ليبقى.
الثورة كسؤال وجودي:
لا تطرح الرواية سؤال الثورة بصيغته السياسية: «لماذا ثار السوريون؟»، لكنها تجيب عليه ضمنيا عبر العلاقات الإنسانية. الثورة هنا ليست حدثا سياسيا بقدر ما هي انفجار في بنية الوعي الجمعي، فلسان حال أي شخصيّة في الرواية يقول: لقد خسرنا كل شيء إلا الإحساس بأننا كنا على حق، وهنا يتجلى جوهر التجربة بوصفها بحثا عن المعنى وسط انهيار المجتمع، الذي بدا هشا ومأزوما أكثر مما كان يخفيه الواقع.
بهذا المعنى، تشترك الرواية مع تصور لوكاش للوعي التاريخي في الرواية؛ إذ تتحول الشخصيات إلى أدوات لفهم التاريخ من الداخل، لا لتمثيله فحسب. فالسرد في «سبدلا»، هو محاولة لقول الحقيقة عندما تُحاصَر وتُنتهك في الواقع، وصراع بين الشخصيات للتمسك بسردياتها.
الطائفية والانقسام بوصفهما بنية سردية:
تُقارب الرواية الطائفية لا كقدرٍ اجتماعي، بل كبنية خطابية صنعها النظام وأعاد إنتاجها من خلال علاقة مخلص بحبيبته العلوية، فيبرز الكاتب كيف زرع النظام الخوف المتبادل بين السوريين، حتى أصبح الانتماء الطائفي بديلا عن الهوية الوطنية، كما ترصد الرواية بحذر ظاهرة تصاعد النزعة القومية الكردية والشعور العارم بالاختلاف عن المحيط، وتحوّلها في بعض المناطق إلى مشروع موازٍ للنظام وطموح يهدف لإعادة رسم الخريطة السورية، وفق مصالح متنازعة في زمن حمل فيه الثوار الأوائل مشعل الحرية، ورددوا شعارات الوحدة الوطنية. إنّ هذه التفصيلات تُظهِر قدرة الكاتب على تحويل السياسة إلى سرد والواقع إلى نصّ رمزي يكشف آليات التمزق الاجتماعي في بنية الوطن الواحد.
رمزية الحرب وتحولات اللغة:
قدم الجاسم روايته في إطار لغة مكثفة متوترة، تتأرجح بين الواقعية والشاعرية الدافعة للتأمّل، فالجاسم لا يصف الحرب من الخارج، بل يجعلها تنطق من داخل اللغة ذاتها. الجمل متقطعة كأنفاس المدن المهدّمة، والإيقاع يتبدل تبعا للحدث؛ حين تتصاعد القذائف، تتسارع اللغة، وحين يتوقف الزمن عند الموت، تهدأ المفردات، فالحرب ليست مجرد خلفية للأحداث، بل شخصية كلية تتغلغل في النسيج السردي وتعيد تشكيل الإنسان واللغة في آنٍ واحد. وهكذا تتحول «سبدلا» إلى شهادة على تحول الخطاب السوري من الأمل إلى الفقد، ومن اللغة العمومية إلى اللغة الممزقة التي تكتب تحت الركام.
الرواية كفعل مقاومة:
في نهاية الرواية، حين تكتشف ابنة أبو محمود صورة والدها بين صور «قيصر» المسرّبة من معتقلات النظام، تستعيد مع مخلص خيط الأمل المقطوع، فيتحول الموت إلى بداية رمزية جديدة. تلك اللحظة تمثل ما يمكن تسميته «التحول الكاثارسي» في الرواية، أي التطهر بالاعتراف والذاكرة والتخلّص من الوهم، تلك اللحظة تصبح حالة تطهير جماعي رمزي من الكذب والخوف، وانبعاث جديدا للوعي السوري من تحت الركام.
ليس من المبالغة القول إنّ الجاسم تحدث عن كل شيء في زمن الرواية (الطائفية، القومية، الديكتاتورية، الوطنية، الصراع الطبقي، الريف والمدينة، الأكراد، العلويون، الثوار، الجيش، داعش، الخوف، الحب، الإلحاد…) وأكثر من ذلك في جغرافيا واسعة من سوريا، ضمن سرد موضوعي متوازن إذ لا يتبنى أيديولوجية توجه أبطاله، فكلّهم يتكلّمون بحريّة ويمتلكون القدرة على التحكم بمصائرهم، فهو يقدّم في هذا العمل نصا متوهجّا شديد الوعي بتاريخه وبحاضره، لا يشغله التوثيق بقدر ما يشتغل على تفكيك البنية الذهنية للخراب الاجتماعي، الذي سحق الواقع. إنّ الرواية في النهاية لا تبحث عن بطل منتصر، بل عن معنى للبقاء في عالم ينهار موشك على الاندثار. إنها رواية الوعي المأزوم، والبحث عن العدالة، ومحاولة استعادة اللغة كبيتٍ للإنسان السوري. لعلّ «سبدلا» تشكل إضافة إلى رصيد الرواية السورية المعاصرة بوصفها نصا كاشفا ومؤسِّسا، يوازن بين الواقعية النقدية والبنية الحوارية، بين الذاكرة والتاريخ، وبين الفردي والجماعي، ويمكن القول أخيرا: إن الجاسم لا يكتب رواية عن الحرب بقدر ما يكتب الحرب في الرواية؛ أي الوعي الذي يختبر نفسه عبر السرد، ويحوّل الكتابة إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية ضد تآكل الحقيقة.
الرواية جاءت في 380 صفحة من القطع المتوسط وصدرت عن دار نرد للنشر والتوزيع 2025.