آخر تحديث :الجمعة-12 ديسمبر 2025-01:11م

الفن والأدب


بين الحياة والموت… فيلم «وبعد» يأخذك في رحلة سينمائية مؤثرة

بين الحياة والموت… فيلم «وبعد» يأخذك في رحلة سينمائية مؤثرة

الجمعة - 12 ديسمبر 2025 - 01:56 ص بتوقيت عدن

- المرصد خاص

لا شك في أنّ العلاقة بين الرواية والسينما قديمة قدم الفن السابع نفسه، فما زالت الأعمال الروائية الرائجة تستقطب المنتجين والمخرجين، لتحويلها من المقروء إلى المرئي، برؤية تقارب الرواية أو تباعدها، كما يحدث في أغلب الأحيان في علاقة الفنون بعضها ببعض، فالقصيدة التي تُغنّى يجري عليها بعض التعديلات حتى تتوافق مع التلحين والغناء؛ فلكل فن تحديداته، وهذا ما حدث في رواية وفيلم (وبعد)؛ إذ ظلا في مسارين متقاطعين ومتعانقين، سوى في بعض المحطات، أو الحبكات الفرعية التي لم تؤثر على الاتجاه العام للأحداث.
ومن هنا كانت الكتابة المختلفة هدف كل روائي يبحث عن بصمة خاصة به، في عالم تتلاطم فيه مذاهب الكتابة كتلاطم موج البحر الهادر. هناك ضريبة ندفعها ثمنا لهذا التزاحم الشديد، فالأعمال الجيدة تختلط بغيرها من أعمال جودتها محدودة ويضيع وقتنا بين كتاب لا نقرأ منه سوى عشر صفحات، وآخر يظهر من فصله الأول أنّ مؤلفه ذو ميول يسارية، أو يقينيّة لم تعد تستهوي كثيرين من القرّاء. ربما نحتاج من وقت لآخر إلى كتاب ينطوي على فكرة صادمة كأن تنهض من النوم لتجد نفسك حشرة، كما في �المسخ� لكافكا، أو أن تقف على الإشارة الضوئية وتصاب بالعمى، كما في �العمى� لساراماغو، أو أن تكون لديك مقدرة خاصة على رؤية ملاك الموت وهو يستدعي أحدهم إلى العالم الآخر كما في فيلم �وبعد� المأخوذ عن رواية للكاتب الفرنسي غيوم ميسو بالعنوان عينه، والفيلم من إخراج جيل بوردو عام 2008 وبطولة رومان دوري، جون مالكوفيتش، وإيفانجلين ليلي.

الفيلم ينطوي على مسحة سريالية تجعلنا ندرك منذ البداية أننا أمام عمل مختلف، يخلع عباءة الواقعية والرومانسية، ويدفعنا للتأمل والتفكير والتدبر؛ فالأشكال الفنيّة والمذاهب والرؤى تقول الأشياء نفسها، ولكن بأساليب وطرائق مختلفة. لا نستطيع أن نقول إنّ الفيلم ينطوي على فكرة مألوفة أو مستنسخة، أو إنّها من أفكار إعادة التدوير، بل هي أصيلة ومختلفة وصادمة.
ولكنّ هناك سؤالا بحاجة لإجابة: ما احتمالية أن تكون هذه الفكرة واقعية وحقيقيّة وليست سرياليّة؟ علينا أن نعترف منذ البداية، بأنّ هناك أشخاصا يتمتّعون بقدرات خاصة لا تتأتّى لغيرهم، وفي التراث العربي على سبيل المثال هناك ما يسمّى بعلم الفراسة؛ وهو أن يعرف هذا المتفرّس نسب وقبيلة وصفات من يحدّثه، من دون أن يكون بينهما سابق معرفة، من خلال دلائل حسيّة ومعنويّة يراها فيه بفطرته وفطنته، لكننا في هذا الفيلم أمام حالة مختلفة عن الفراسة، لكنهما تتشابهان في رؤية ما لا يراه الآخرون، ولا أتحدّث هنا عن توقعات المنجمين، الذين ذاع صيتهم في العشرين سنة الماضية؛ فالأمر ينطوي على وجهات نظر متفاوتة لا مجال للخوض فيها هنا. هل بالفعل هناك قدرات خاصة تتوفر لدى بعض الأشخاص الذين تنفتح أمامهم نافذة على المستقبل؟ وما هو حجم الأحداث التي يطلعون عليها؟ يثير الفيلم أسئلة كثيرة، وعلى الأغلب فإنّ سقف التوقعات سيرتفع في عصر الذكاء الاصطناعي، وقد يصبح هناك نافذة رقمية على المستقبل.

كيف نتصالح مع الموت؟ هذا هو السؤال الملح الذي يطرحه الفيلم. الاستكانة للعادة والروتين جزء من طبائع البشر التي نتمسك بها لأنّها تجعلنا نشعر بالأمان، والسبب وراء ذلك أنّه من السهل توقّع حدوثها ومعرفة ما تجلبه علينا من نتائج، وما يسبقها من أسباب، أما الموت فهو أمر مختلف تماما ولم يسبق أن صادفه شخص ما مرتين. تلزمنا جرعة كبيرة من السلام الداخلي والإيمان حتى نغادر هذه الدنيا راضين قريري العين.
ناتان المحامي الناجح الذي دفع ضريبة نجاحه غاليا، يتعرّض في طفولته لحادث خطير نجا منه بأعجوبة، وكما يقال باللغة المحكية: (وصل الموت ورجع)، وهي حالة فريدة حدثت وما زالت تحدث في نماذج محدودة جدّا ويشار إليها بتجربة الاقتراب من الموت (Near Death Experience)، أي أن ناتان بدأ برؤية واختبار ملامح من العالم الآخر، قبل أن تجذبه الحياة لجهتها، ما الذي يراه؟ وماذا يشعر؟ وهل يرغب في العودة إلى حيث كان؟ هناك شهادات مفصّلة لأشخاص خاضوا هذا الأمر، ولكن في المجمل نقول، إنّ للتجربة تأثيرا واضحا على مسيرة وحياة هؤلاء الأشخاص. الأمر الآخر الذي أثّر في حياة ناتان وعائلته هو فقدان طفل رضيع من خلال ما يسمّى الموت المفاجئ، وهذه قضية أخرى محيّرة ولم يصل العلم إلى تفسير مقنع لما يحدث.
وفي المحطة الأخيرة من هذه الأحداث العاصفة والتجارب المؤثرة في حياة ناتان يظهر لنا كأحد هؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بالقدرة على رؤية الموت الوشيك. يدرك أن زوجته ستموت قريبا فيترك العمل الذي أدمنه ويبقى إلى جوارها، ولعل هذا من رسائل الفيلم إلى العالم الاستهلاكي الرأسمالي، الذي يقدّس ساعات العمل الطويلة ويعتبرها الرافعة الأساسية لمجتمع مدني متحضّر يعمل ويستهلك لتحريك عجلة الاقتصاد، ولكن على حساب العائلة والعلاقات الاجتماعية؛ فنحن نعيش في حي نظيف ولدينا شوارع عريضة وكل شيء متوفر ومتيسر، لكن لا وقت لدينا لإلقاء تحية الصباح على جارنا أو الابتسام في وجه طفل تجرّ الام عربته في نزهة المساء. الفيلم يدعونا لمراجعة مواقفنا من أولويات الحياة للعودة إلى العائلة ودفء القيم المجتمعيّة التي عرفناها في مرحلة ما من حياتنا، يدعونا للتّخفّف من إدمان العمل والسلوك الرأسمالي وتبعاته من برودة العلاقات، وتلاشي التعاطف مع الناس الأقل حظًا وانعدام الإحساس بالوقت مقابل الإنجاز.