آخر تحديث :الإثنين-13 أكتوبر 2025-11:47م

مقالات


(4) وجوه لا ولن تُنسى.. علّموني أن ما بين الصحافة والإدارة خيط من (الوفاء)

(4) وجوه لا ولن تُنسى.. علّموني أن ما بين الصحافة والإدارة خيط من (الوفاء)

الإثنين - 13 أكتوبر 2025 - 09:17 م بتوقيت عدن

- كتب  محمد حسين الدباء



منذ أن وضعت قدمي على أول عتبة في مهنة المتاعب، في العام 2007، لم أكن أدرك أن الصحافة ستغدو مدرسة عمرٍ، لا يتخرج المرء منها إلا بزادٍ من التجارب والوجوه والمواقف التي تشكّل ملامح شخصيته المهنية والإنسانية.
عملتُ في ثلاث صحف حملت في حروفها روح الوطن وتنوعه؛ في صحيفة "الأيام" حيث كنت مصححاً ومحرراً ومسؤولاً ثقافياً، وفي "أخبار اليوم" حيث خضت ميدان الصحافة الرياضية، وفي "عدن الغد" التي منحتني مسؤولية مدير التحرير لأتعلم معنى القيادة وسط زحمة العناوين وضجيج الأحداث.
كانت السنوات تمضي، والمهنة تهذب الحروف كما تهذب المعادن في أفران النار، وكل زميل ومدير مررت به كان بمثابة معلم خفي يترك بصمته في طين التجربة، غير أن هناك (أربعة) مسؤولين، سكنت ملامحهم ذاكرتي المهنية، لا لأنهم فقط رؤساء أو زملاء عملت معهم، بل لأنهم غرسوا في داخلي مبادئ الحكمة في إدارة البشر قبل إدارة العمل.
واليوم، وأنا في موقعي كـمدير عام الإدارة العامة للإعلام التربوي في ديوان وزارة التربية والتعليم، ومحاضر في كلية الإعلام أجد نفسي أستدعي سيرتهم كلما جلست على مكتبي مع الموظفين أو في قاعة الكلية مع طلابي، فهم من شكّلوا جزءاً من فلسفتي في التعامل والإدارة.

الأول: هشام باشراحيل.. (الباشا) في إنسانيته
للبعض نصيب من أسمائهم، وهشام باشراحيل واحد من أولئك الذين تجسدهم أسماؤهم قبل ملامحهم، (باشا) في حضوره، (باشا) في سلوكه، و(باشا) في إنسانيته.
كم مرة دخلت عليه وأنا أظن أن الغضب قد بلغ منه مبلغه، وأن العاصفة لا محالة قادمة، فإذا به يرفع رأسه إليّ مبتسماً، يطفئ نيران التوتر بكلمة رقيقة، ويمتص حدة الموقف بابتسامة الواثق.
منه تعلمت أن المدير الحقيقي ليس من يرفع صوته ليُسمع، بل من يملك ميزاناً دقيقاً يزن به الناس والظروف، تعلمت منه أن (الغضب إن لم يُجمّل بالحكمة، يصبح سيفاً على أصحابه).

الثاني: أمين الحاضري.. القلب الذي يتسع لوطن
(أمين) وما أدراك ما أمين الحاضري! مدير نادر المثال، يمارس القيادة بقلب الأخ لا بسلطة المنصب، يعامل موظفيه وكأنهم هم الرؤساء وهو الموظف عندهم، لم أكن أرى على وجهه إلا الابتسامة، تلك التي كنت أصفها بـ(ابتسامة وطن)، لأنها صادقة، دافئة، تشع طمأنينة في أجواء العمل.
علّمني الحاضري أن (كسب القلوب أعظم من كسب المواقف، وأن الإدارة ليست إصدار أوامر، بل بناء جسور من الثقة والود بين القائد ورفاقه).

الثالث: فتحي بن لزرق.. ميزان الثقة 
الأخ، والزميل وابن قريتي، فتحي بن لزرق، ذلك الذي يزن الأمور بميزان لا يعرف الانحراف، ففي "عدن الغد"، رأيت فيه مثال القائد الذي يمنح الثقة دون قيد، ويؤمن أن الموظف إذا شعر أن رئيسه يصدّقه، أبدع بما يتجاوز التوقع، لم يكن يتدخل في التفاصيل الصغيرة، بل يترك لكل فرد مساحته ليبدع ويخطئ ويتعلم.
تلك الثقة كانت هي الوقود الذي جعل معظم العاملين حوله يقدمون خلاصة جهدهم بحبّ لا بتكليف،  ومنه (أدركت أن القائد العظيم هو من يزرع في فريقه الإيمان بأنهم شركاء في النجاح لا أدوات في يده).

الرابع: الشيخ صالح الشويحي.. المتهلل دوماً
ربما أن فترة العمل التي جمعتنا بسيط ووقتها قصير مع أبي سالم الشيخ صالح سالم الشويحي، لكن الأثر لا يُقاس بطول الزمن، بل بعمق الحضور، وكان إذا أقبلت عليه، استقبلك بوجه تهللت أساريره حتى لتظن أنك صاحب فضل لا هو، ينطبق عليه قول الشاعر:
تراه إذا ما جئته متهلِّلًا * كأنك تعطيه الذي أنت سائله
رجل يحمل في ابتسامته صدقاً، وفي كلماته دفئاً، يجعلك تخرج من لقائه وقد ازددت طاقة وإيماناً بأن الدنيا بخير، معه تعلمت (أن اللطف في المواقف الصغيرة، أعظم أثراً من الكلمات الكبيرة).

ما بين الصحافة والإدارة.. خيط من الوفاء
تجربتي الإعلامية لم تكن مجرد مهنة، بل كانت رحلة إنسانية تشبه مسيرة النهر من المنبع إلى المصب، بدأتُ فيها متعلماً ألتقط من كل محطة دروساً، حتى صرت اليوم أعلّم بما تعلمت، وأقود بما اقتبسته من هؤلاء الأربعة الذين سيبقون في ذاكرتي علامات مضيئة على درب المهنة والإنسان.
إن الإدارة، كما الصحافة، ليست سلطةً بل رسالة، وما بين الكلمة والموقف خيط رفيع من الوفاء لمن غرسوا فينا الإخلاص، وعلّمونا أن النجاح لا يولد في المكاتب المغلقة، بل في القلوب المفتوحة على الاحترام والإنسانية.