آخر تحديث :السبت-31 مايو 2025-12:22ص

مقالات


هل ترضاها لأختك؟ حين يتحول المجتمع إلى قاضٍ وجلاد

هل ترضاها لأختك؟ حين يتحول المجتمع إلى قاضٍ وجلاد

الإثنين - 26 مايو 2025 - 10:11 م بتوقيت عدن

- كتب حسام الحفاظي

في مكان ما من وعينا اليمني، هناك مأزق قديم يسكننا. مأزق يرتعب من الفن، ويخاف التغيير، ويرى في كل محاولة للتحرر ردة عن الجماعة، حتى لو كانت تلك المحاولة مجرد صورة، أو رقصة، أو رأيًا يخالف السياق العام. هؤلاء المأزومون لا يقبلون التعدد ولا يتحملون الاختلاف. وظيفتهم الرفض فقط: يرفضون كل خرق للنمط، كل كسر للعادة، كل خطوة نحو الحرية التي لا تشبههم.

في هذا المجتمع، لا أحد يناقشك في فكرتك، بل يحاكمونك أنت. تُدان لا بسبب طرحك، بل لأنك مختلف. لأنك خرجت عن السطر المرسوم، السطر الذي يقول: كل من يشبهنا طيب، وكل من يخرج عنا، زنديق. وتتحول الفكرة إلى تهمة، والاختلاف إلى لعنة.

خذ مثالاً على ذلك ما حدث مع الفنانة هديل مانع. ممثلة يمنية شابة، شاركت في برامج تلفزيونية محلية، وخلقت جمهورها في ظرف إنتاجي قاسٍ، وسط بيئة لا تُسامح. لم يُناقش أحد موهبتها، لم يقيموا أداءها ولا رسالتها الفنية، بل ركزوا على ملابسها، طريقتها، صورها. وصارت حياتها الشخصية هدفاً للحصار الأخلاقي، والمزايدات الدينية. اتهموها في شرفها، افتروا عليها، وصفوها بأسوأ الصفات. كل ذلك فقط لأنها كانت حرة بما يكفي لتكون نفسها. وكل من دافع عنها، حتى بأبسط عبارات التذكير بأن للناس خصوصياتهم، ناله وابل من الشتائم، يتكرر فيه السؤال الأشهر: هل ترضاها لأختك؟

ذلك السؤال الخبيث لا يُستخدم لإثبات وجهة نظر، بل لإسكاتها. يريدونك أن تتنازل عن حيادك، عن منطقك، عن إيمانك بحرية الآخر، فقط ليتأكدوا أنك لا تزال تابعاً لهم، خاضعاً لمنطقهم المأزوم. وهو سؤال يقول في باطنه: “دعنا نحاكم العالم بعقليتنا، دعنا نصدر أحكامًا على الجميع من خلف جدران عجزنا وعُقدنا ومخاوفنا المتوارثة.”

والمشكلة ليست هديل وحدها. منذ أسابيع، وجد الفنان اليمني عمار العزكي نفسه في مرمى نفس النار. عمار، الذي أحبه اليمنيون في “عرب آيدول”، والذي مثّل الصوت الشاب المتزن في زمن الانهيارات، نشر كليبًا غنائيًا فيه رقص تعبيري عادي جدًا، بالمقاييس الفنية. لكن رد الفعل كان هستيريًا، حتى أن بعض أبناء منطقته نشروا بيان تبرؤ منه! فقط لأن الكليب لم يُرضِ ذائقة المأزومين، ولأنه هز الركود الثقافي الذي يريدونه خالياً من الحياة، من الجمال، ومن التعبير الحر.

لا أحد قال: ما مضمون الأغنية؟ لا أحد تساءل: ما قيمة التجربة البصرية؟ بل كان الهجوم مركزًا على الجسد، وعلى الرقصة، وعلى “الفضيحة”، كما يتخيلها أصحاب العيون المعبأة بقمع مستتر. كأننا أمام محاكم تفتيش أخلاقية، يظن فيها كل مأزوم أنه مُكلَّف بمهمة مقدسة لتقويم العالم وتطهيره، بينما هو عاجز حتى عن مصارحة نفسه.

وما لا يُقال كثير. كثيرٌ من هؤلاء الغلاظ الذين يسلقون المختلفين بألسنةٍ حداد، ما هم إلا ضحايا صدمات داخلية، حرمان، أو تفكك تربوي في منازلهم. قد يكون أحدهم مشوَّهًا في تصوراته عن المرأة، أو الجنس، أو الحرية، بسبب جرحٍ قديم، أو شهوةٍ لم تتحقق، أو خللٍ لم يُعالج. ولهذا يلجأ لتشويه الآخر، لأنه لا يعرف كيف يتصالح مع ذاته. وما إن يرى فتاة مختلفة أو إنسانًا حرًّا، حتى تبدأ هلوساته الأخلاقية، فيرى فيها صورةً محرّفة لما يرفضه في داخله.

المأزوم لا يرى الآخر كما هو، بل كما يعكسه مرآةُ نفسه المهزوزة. ولهذا فإن أول ما يلجأ إليه هو الطعن في الأخلاق، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنساء. إنه لا يناقش الفكرة، بل يطعن في أصل صاحبها، ويغوص في خصوصياته، في طريقة لبسه، شكله، ماضيه، وحتى في بيته وعائلته. وكأن من يُخالفه في الرأي لا بد أن يُشوَّه ويُجرّد من إنسانيته ليشعر هو بالراحة.

وما يثير الحسرة أكثر، أن هذه البلاد التي عرفت المرأة قيادية، ملكة، وشاعرة، ومبدعة منذ آلاف السنين، باتت اليوم تنظر للمرأة الحرة بريبةٍ وقسوةٍ لا تشبه بلقيس، ولا تُشبه أروى. المرأة اليمنية التي كانت في عمق الهوية الحضارية، يُراد لها اليوم أن تُختزل في زي، أو نمط، أو مشهد منزوع من سياقه. وكأننا نريد أن ننتقم من ماضينا العظيم، بإهانة نسائنا، وتجريدهن من أبسط حقوقهن في التعبير والاختيار. هذه البلاد التي بنتها نساء في الجبل والسهل، وسقينها بالحكمة والحضور، ليست عاجزة عن استيعاب امرأة تقول رأيًا، أو ترقص، أو تمثل، أو تغني. العجز فينا، لا فيها.

نحن أمام مأزق ثقافي عميق، لا يمكن حله بالوعظ وحده. نحن بحاجة إلى إعادة تعريف للحرية، للفن، للمرأة، للخصوصية، للذات. نحن بحاجة لوعي جديد لا يُقيس الناس بأهوائنا، ولا يجعل من الاختلاف سببًا للحرب الشخصية. لا يعقل أن يكون الرد على أي فكرة خارجة عن النمط، هو تسخيفها أو شيطنتها، أو محاكمة صاحبها ومحاولة كسره نفسيًا، وتشويهه اجتماعيًا، أو حتى التلميح بأن “بيته فاسد”، لأن فكرته لا تُناسب مزاجنا.

ما لا يفهمه هؤلاء أن المجتمع الحقيقي لا يرتجف من فستان، ولا ينهار من رقصة، وأن الحريات الشخصية ليست قابلة للنقاش العام. ليست هديل مانع هي المشكلة، ولا عمار العزكي. المشكلة في أولئك الذين يخافون أي شيء لا يُشبههم. أولئك الذين يريدون حراسة المعبد إلى الأبد، حتى لو كان المعبد فارغًا من الروح. الذين لا يريدون منك موقفًا، بل يريدون خضوعًا. لا رأيًا، بل تبعية.

في اليمن، ما زلنا نغضب من الصورة، ولا نغضب من الظلم. نحاسب الراقصين، ولا نحاسب اللصوص. نحاكم الجسد، ولا نحاكم القهر. وما لم نتصالح مع فكرة أن كل فرد حرٌ في ذاته، في خياراته، في صوته، فلن نخرج من هذا النفق.

إن ما أطرحه هنا ليس تعظيمًا لشخص، ولا تبريرًا لمشهد، بل دعوة إلى أن نُقلع عن هذه العادة السامة: التنمر المجتمعي، والوصاية الأخلاقية على حياة الناس. دعوة إلى أن نعيد الاعتبار للكرامة، لا للسوط. إلى أن نمنح الآخر حقه في أن يكون، لا أن نطالبه بأن يكون نسخة منا.

في هذا البلد الذي اشتهر بالستر، يُفترض أن يكون التلصص على خصوصيات الناس عيبًا كبيرًا، لا مظهر بطولة. لقد كان اليمني دومًا يترفّع عن التجسس، ويعتبر الخوض في الشؤون الشخصية نقصًا في المروءة، ومهانة لا تليق بمن يدّعي الغيرة أو الحميّة. وما يجري اليوم من هوس في تقصّي صور الناس، وأخبارهم، وطريقة لباسهم، لا علاقة له لا بالدين، ولا بالأخلاق، ولا حتى بالعُرف اليمني الأصيل، بل هو انحراف ناتج عن مأزق داخلي، عن خواء لا يُملأ إلا بالتنمر، وركض محموم نحو التشهير.

الخصوصية ليست موضوعًا للنقاش، بل حقٌّ مكفول. وليس لأحد مهما كان أن يمنح لنفسه سلطة تفتيش الناس في حياتهم الخاصة. المجتمعات التي تحترم ذاتها تعرف أن ما بين الإنسان ونفسه هو ملكٌ له وحده، ولا يجوز أن يُفتح لعامة المقهورين الذين يجدون في “الفضيحة” تسليةً مؤقتة تغطي على عجزهم ووجعهم.

أوقفوا الجلد.
واتركوا الناس تعيش.